يمثل عمل إميل حبيبي (1921-1996) تيارا أساسيا في الرواية العربية المعاصرة ويتخذ من تهجين الشكل الروائي الأوروبي بعناصر سردية وغير سردية، مجتلبة من التراث العربي والحكايات الشعبية وأشكال السرد الشفوي. وسيلته للخروج من قبضة الشكل السردي الخطي الذي استطاع نجيب محفوظ في ثلاثيته، وعدد آخر من رواياته التي تنتمي إلى الخمسينيات، أن يعتصره ويقيم منه عمارته الروائية.
ويقيم حبيبي في الوقت نفسه وشائج وصلات قربى مع النثر العربي القديم، وكتب السير والتاريخ وألف ليلة وليلة والمقامات. إنه يعمل من خلال توسيع دائرة الحكاية وإيراد تعليقاته عليها وإغراقها بفيض من الحكايات الموازية والاقتباسات الشعرية والنثرية، لتوجيه القارئ إلى أصل الحكاية، إلى معنى “التراجيديا” الفلسطينية وصراع البقاء الذي خاضته الأقلية الفلسطينية التي بقيت متشبثة بالأرض والوطن بعد كارثة 1948.
في “سداسية الأيام الستة” (1968) يحكي الراوي 6 حكايات تدور جميعها حول عودة الفلسطيني إلى بعض من أهله من خلال واقعة الهزيمة عام 1967. إنها عودة معكوسة تبدو فيها الهزيمة مفارقة ساخرة وتعليقا مواربا على “التراجيكوميديا” الفلسطينية.
وتمثل حكاية الطفل مسعود الذي كان والده من العرب الباقين وأعمامه من العرب المشردين، الحكاية/ المفتاح التي تكشف عن عمق هذه المفارقة الساخرة.
إن الطفل الذي يظن -هو وأبناء حارته- أنه مقطوع من شجرة بلا أعمام ولا أخوال، يكتشف بعد الهزيمة أن له أعماما وأبناء أعمام، فيتيه على أقرانه بعمه وأبناء عمه الذين اكتشف وجودهم بعد أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية.
لقد أضفى هذا الاكتشاف على حياته معنى جديدا، ولكن وضعه في الوقت نفسه في مأزق لن يجد له حلا؛ إذ إنه يؤمن بتأثير الأفكار السياسية التي تحملها أخته، بضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها، ولكن ذلك سيعيده إلى حالته الأولى: مقطوعا من شجرة لا عم فيها ولا ابن عم.
5 حكايات
ينسج إميل حبيبي على بؤرة هذه الحكاية التي تبدأ بأغنية فيروزية: “لماذا نحن يا أبتي/ لماذا نحن أغراب؟/ أليس لنا بهذا الكون/ أصحاب وأحباب”، 5 حكايات أخرى عن العودة المقلوبة لشطري الشعب الذي وحّده الاحتلال.
وهذه الحكايات هي: حكاية العائد إلى ذكرى حبه الأول ولكنه في غمرة جيشان عواطفه ينسى أنه المحب العاشق المقصود بالحكاية، وحكاية “أم الروبابيكا” التي عاشت على ذكريات الراحلين من أهل فلسطين تشتري أثاثهم لكي تتوحد مع ذكرياتهم، وحكاية بنت من الناصرة أحبت فتى مقدسيا وانتظرته حتى يخرج من السجن، وحكاية “جبينة” التي عادت إلى أمها العجوز شبه المقعدة، وحكاية الصبية المقدسية التي تشاطرت السجن مع صبية حيفاوية.
في “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” (1974) يصور حبيبي كابوسية المصير التراجيدي لشعب انشطر نصفين: داخل الوطن وخارجه. و”المتشائل”، الذي يمزج في نظرته إلى الحياة بين التشاؤم والتفاؤل ويُغلّب نظرة التفاؤل غير المبني على أسس واقعية على التشاؤم، شخصية مركبة كاشفة يميط المؤلف من خلالها اللثام عن تجربة شعب.
إنه يعمل على تكوين شبكة سردية معقدة تدور حول شخصية سعيد أبي النحس التي يبدو ظاهرها غير باطنها، ولكن المفارقات اللفظية والموقفية تكشف عن طبيعة ولائها وتكشف في الوقت نفسه عن كوميديا سوداء يعيشها شعب مشرد على أرضه.
إحساس الفلسطيني
إن شخصية “المتشائل” وأفعالها، وما يرد على لسانها من اقتباسات وتلاعب بالألفاظ وتحويرات للمواقف والأخبار وتأويلات فقه-لغوية، تمثل وصفا مواربا لإحساس الفلسطيني بغربته داخل وطنه، كما أنها تمثل محاولة للتعبير عن هذا العالم الشديد الغرابة، الذي وجد الفلسطيني نفسه فيه بعد قيام دولة إسرائيل.
في العمل التالي “لكع بن لكع” (1980) نصادف الحكاية نفسها لكن في إطار جديد، حكاية الفلسطيني بشقيه المقيم والمشرد عن أرضه. لكننا في هذا النص نعثر على معالجة شبه مسرحية للحكاية التي يسميها المؤلف “حكاية مسرحية” يتم فيها الجلوس “ثلاث جلسات أمام صندوق العجب”.
وليس في النص بالطبع أي حكاية بالمعنى التقليدي للكلمة سوى ما ترويه “بدور” (شخصية مركزية في هذا النص) عن ضياع ابنها “بدر”. إن عنوان النص نفسه مأخوذ من حديث شريف يقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- “لا تقوم الساعة حتى يلي أمور الناس لكع بن لكع” في إشارة دالة إلى الواقع الذي تدير “الحكاية المسرحية” حديثها عنه وحوله. لكن النص، رغم الاتكاء الواضح على الحديث الشريف، فلا يستطيع أن يقنع قارئه بالعلاقة العضوية بين معناه الضمني وعنوانه.
“اخطيّة” (1985) هي نموذج الرواية التي تبدأ من حدث صغير ثم تتشعب في جميع الاتجاهات. إنها رواية تقوم على حدث صغير يتمثل في أزمة مرورية بسبب سهو السائقين الواقفين قريبا من الإشارة الضوئية في أحد الشوارع المؤدية إلى مدينة حيفا في لحظة زمنية معينة في فترة الثمانينيات من القرن الماضي.
وهي محاولة لمعرفة سبب حدوث هذه الأزمة المرورية التي تسميها “الجلطة”، لكن الراوي يسترسل في حكاياته وتأملاته وخيالاته ليصل بالقارئ أخيرا إلى “اخطية الكسيحة الخرساء” التي سقطت على صخرة بحرية، وعاد الراوي ليبحث عنها بعد مرور نحو 40 عاما بعد أن غابت وغيّبها الزمان.
ومن الواضح أن الكاتب يغزل خيوط عمله الروائي ليدفع قارئه إلى وجهة دلالية محددة تتعانق فيها “اخطية -الفتاة المحلوم بها- الإنسانة التي هي من لحم ودم” مع “اخطية -الرمز” أي فلسطين الضائعة قبل 40 عاما من كتابة الرواية.