التطبيع، السلام، التآلف، الحوار هي ألفاظ رقيقة وأنيقة استخدمها الكيان الصهيوني في ترويج فكره والوصول لهدفه ومبتغاة بكل سهولة ويسر، وهي الفاظ يعجب بها من سمعها ويظن بها خير الظنون، لكنها ترتدي بداخل اللفظ خمسين قناعا وترقص على خمسين حبلا. ويعمل صناع التطبيع على تحويل المزاج الرسمي والنفسي للشعوب العربية تجاه العدو الصهيوني، من كيان غاصب وعدو للعرب إلى دولة جارة وصديقة يجب التعايش معها.
يقصد بالتطبيع جعل ما هو غير طبيعي طبيعياً ولا يعني إعادة الأمور إلى طبيعتها كما يذهب البعض. فالتطبيع هو جعل العلاقات طبيعية بين طرفين ليست العلاقات بينهما طبيعية حاليا سواء كانت طبيعية سابقا أم لا. وهو انتقال العلاقات بين الطرفين المتنازعين من مرحلة العداء إلى مرحلة الصداقة، وبالتالي تلغى حالة التناقض والحرب وتقوم تلك العلاقات على أساس المصالح المتبادلة وحسن الجوار والتعاون في كافة الميادين والمجالات. وهو بناء علاقات رسمية وغير رسمية سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية واستخباراتية مع الكيان الصهيوني، والاعتراف بأن للكيان الصهيوني حقاً في الأرض وفي بناء المستوطنات، وحقاً في تهجير السكان الأصليين وتدمير المدن والقرى وغصب كل من يقبع تحت الاحتلال بالرضا بأبشع مراتب المذلة والهوان والتنازل عن الحقوق والكرامة .
وجوهر التطبيع هو إحداث تغيير على الجانب العربي والإسلامي على أن يبدأ هذا التغيير بالتسليم بوجود الكيان الاسرائيلي كوجود طبيعي في المنطقة، ويمتد إلى تغيير قدرات العالم العربي العسكرية وتغيير معتقداته السياسية والاجتماعية والدينية الصحيحة والأصول التاريخية والقومية، وحتى المواقع الجغرافية، وإعادة صياغة شبكة علاقاته إضافة إلى تحقيق مطالب أمنية وإقليمية وصولا إلى تغيير المواقف تجاه هذا الكيان بصورة جذرية . ويسعى التطبيع إلى انشاء علاقات مع العدو الصهيوني وتجاوز الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين والسوريين في الجولان المحتل من غير تحميلهم مسؤولية تلك الجرائم.
تعريف التطبيع الثقافي: هو القبول بالمفردات والمقاربة الصهيونية الأيديولوجية واعادة صياغة التاريخ واعادة صياغة المناهج التعليمية، وشطب كل ما يشير إلى الاحتلال وتغير أسماء الأمكنة والاستيلاء على التراث الفلسطيني العربي، والعبث بالآثار في كل من الجولان وفلسطين وما يحيط بهما من محيط تاريخي وأثري في المشرق القديم، وسرقتها وتدميرها واخفاء كل الشواهد على الجرائم التي أدت لتهديم القرى والمدن والأحياء العربية وتغير الخارطة التاريخية للوطن العربي . وللتطبيع الثقافي وجهان:
1) الوجه الخفي: وهنا يزعم أصحاب هذا الفكر معارضة الكيان الإسرائيلي وسياسته، إلا أنهم لا يرفضون زيارة الأراضي المحتلة ويحاولون عقلنة هذا العمل، ويرون فيها دعما للقضية الفلسطينية ويرحبون بزيارة الغرباء الذين لا علاقة لهم بفلسطين، أو بجوارها وبتلك الحرية المتاحة لهم بالتنقل داخل الأراضي الفلسطينية، وهي فرص لا يتمتع بها الفلسطينيون أنفسهم داخل البلاد. فهم محاصرون في مناطقهم يحتاجون لتصاريح وموافقات من الكيان الصهيوني لزيارة المقدسات أو حتى التنقل من مكان لآخر، إضافة إلى أن أي زائر لفلسطين عليه أن يتعامل مع جنود الاحتلال الإسرائيلي ليتنقل بحرية داخل الأراضي المحتلة، حيث تنتشر نقاط التفتيش الإسرائيلية الدائمة والمؤقتة.
ويعمل الفكر التطبيعي على نشر الأضاحيك الكلامية الفكرية الثقافية المبرمجة والمنظمة لتغيير العقول وتزيف التاريخ، لكن هذه العملية تتصاعد حدتها وأسلوبها حسب انهزام المخطط الصهيوني أمام الشعوب الواعية، وذلك باستخدام بعض المثقفين والسياسيين لإرسال المعلومة المعرفية المزيفة على مواقع التواصل الاجتماعي لأن الكلمة والمعرفة حروف سهلة التغلغل والوصول للفكر لكنها سموم خارقة لضرب عقل انسان واحداث قنبلة نووية فيه قد تقلب له موازين حياته وحركته ومواقفه وقراراته العلمية والفنية والإعلامية والتاريخية، لنقل العقل العربي والمسلم إلى عقل يعترف بالشعب الفلسطيني كقوم شتات جاء على أرض غير أرضه، ويقبل بالمخطط الإسرائيلي حبا وترحيبا ودفاعا، وهو ما ترفضه الشعوب لا بالعقل والفكرة فقط بل كذلك بالروح والفطرة.
2) التطبيع الصريح: ينادي المطبّعون الصريحون بضرورة انشاء علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية بين الحكومات العربية والكيان الإسرائيلي، من أجل أهداف استراتيجية ومصالح خاصة وآنية. وغالبا ما يستخدمون مصطلحاً باطلاً ومزعوماً ومناقضاً للحقيقة ألا وهو (الخطر الإيراني) كمستند لهذه الحجة وزعمٌ كهذا يمكنهم من التقرب بسهولة للكيان الصهيوني، والمقصود منه أن تتناسى الشعوب صورة إسرائيل ككيان معتد وسارق للتراث والتاريخ ، واستبدال الخطر الإسرائيلي بالخطر الإيراني المزعوم وهكذا تكتمل خطة الإخفاء والتزيين والتجميل.
مظاهر التطبيع:
يترسخ الصراع في وعي الشعوب وثقافتها وذاكرتها الجمعية ووجدانها القومي، فيصعب هز القناعات وتدمير مقومات الذاكرة الشعبية الوطنية واختراق الثوابت التاريخية والحضارية والدينية، دون إقامة جسور للتواصل والتطبيع الثقافي، من هذا المنطلق قامت الاستراتيجية الصهيونية وتجلياتها المعاصرة على محاولة نزع العداء من الوجدان والعقل والذاكرة العربية وهي مهمة قامت بالتخطيط لها مراكز بحوث علمية وجامعات ومعاهد وهيئات أكاديمية إسرائيلية.
لقد قفز المروجون لمفهوم التطبيع فوق حقيقة تاريخية وهي أن الكيان الاسرائيلي لم يكن موجوداً أصلاً قبل قرن من الزمن حتى تدعو الشعوب لإعادة العلاقات معه إلى طبيعتها ولم يقف الأمر إلى هذا الحد بل انهم أعطوا تلك العلاقات الطبيعية مفاعيل محددة تؤدي بالنهاية إلى هيمنة لا علاقة لها بالعلاقات الطبيعية فهي تنال من حقوق الدول والمجتمعات والأفراد حتى المستقرة منها. لأنها أخذت تفرض عليهم شروطا لا نظير لها في العلاقات الطبيعية، إذ تعمل تلك العلاقات على ضياع الهوية المميزة لتراثنا وثقافتنا وشخصيتنا العربية بالدرجة الأولى والفلسطينية بالدرجة الثانية.
1) تقوم الثقافة العربية الشعبية على منطلقات فكرية تحررية معادية للاستعمار والتبعية، ومنادية بالاستقلال والتمسك بالهوية والاعتزاز بالبطولات والأمجاد. فعمل المطبعون على التشكيك بهذه المنطلقات الوطنية التحررية، ما أدى إلى وضع مقومات الشخصية العربية وثقافتنا العربية موضع التساؤل، لتكون النتيجة سلب الثقافة العربية متانتها، والتراث معناه وسلب الشخصية العربية هويتها. وإن لم يتم التصدي لمثل هذا التشكيك فسيتغرّب الانسان العربي عن فكره الذي ورثه عن آبائه وأجداده ولن يتمكن من نقله لأولاده.
التطبيع الثقافي يعمل على مسح الذاكرة الوطنية التاريخية للأمة وقطع صلاتها بماضيها الذي يجسد خزان المتراكم المعرفي المكتسب من تجاربها.. بزعم انه يثير الاحقاد ويسعر موجة العداء من خلال الدعوة للابتعاد عن كل ما يثير الأحقاد ويسعر موجة العداء، أو يثير أسبابه والحل من وجهة نظر المطبعين هو التركيز على متغيرات الحاضر والانطلاق منها إلى المستقبل ووضع الماضي بما يحمل من حضارات واختلاف الأجناس والمعتقدات والديانات بكل منجزاته وآثاره وتراثه الملموس وغير الملموس في طي النسيان.
ويهدف التطبيع الثقافي إلى تفكيك المقومات الذاتية للثقافة العربية والإسلامية على كل المستويات في داخل الأقطار العربية وخارجها، بين الأديان وداخل كل دين بين المذاهب وداخل المذهب نفسه بين الشعوب وداخل كل شعب، كما يهدف لتفكيك التواصل بين الماضي والحاضر وتخريب التفاعل بين الأجيال ناسفا الماضي، ضاربا للمستقبل، في الوقت الذي يتمسك فيه الكيان الصهيوني بما ادعى بأنه ماضيه ويقوم باختلاق تراث يهودي له في القدس والخليل وعموم الأراضي العربية المحتلة، ليؤكد على حقه ووجوده كاحتفاله بثلاثة آلاف سنة على انشاء القدس حتى لو أدى ذلك إلى هدم الأماكن الإسلامية المقدسة . انه باختصار تجريد الأمة من ثقافتها لكي تصبح شبيهة بثقافة الكيان الصهيوني الفارغة البعيدة بعدا تاما عن معاني الأصالة والوحدة والتجذر. فقد تجاوز الموضوع الحدود التي تصل إليها الآلة العسكرية الإسرائيلية ووصل إلى الحدود التي وطئتها الآلة الصهيونية ووكلاؤها.
يرى خبراء الكيان الإسرائيلي وقياداته وباحثوه في تدمير المقومات الذاتية للثقافة العربية والتراث العربي والإسلامي والشعبي العنصر الأهم والأكثر إلحاحا في فرض الهيمنة الصهيونية على العرب، وجعلهم يستسلمون نهائيا وصولا إلى هزيمتهم الحضارية وانهيارهم القومي وانتحارهم الجماعي. فهي تعمل على زرع ونشر عوامل الفرقة والتشتت والتحزب الفكري في البلاد العربية وبما يؤدي إلى زيادة التطرف الديني والطائفي والعرقي والقضاء على فكرتي القومية العربية والتضامن الإسلامي وابدالهما بفكرة التعاون الإقليمي الشرق اوسطي.
2) عملت الصهيونية منذ القدم على تزوير التاريخ وتغيير الكتاب المقدس لتبرئة اليهود من دم السيد المسيح، وهي الآن تعمل على جريمة أخرى في حق الأديان السماوية، من خلال تحريم تلاوة آيات القرآن ومنع تدريس الوثائق والنصوص المعادية لليهود وبني إسرائيل، إذ كثفت الحركة الصهيونية جهودها العلمية لرصد وتسجيل وتحليل المفاهيم الإسلامية المؤثرة في الصراع معها، كأحد أبرز العناصر البنائية للذهنية العربية والشعبية، وقد أقرّت بنوداً في معاهدات السلام مع الدول العربية تجرم وتعاقب قراءة الآيات الممنوعة أو مناقشة الموضوعات والعناوين المحظورة. وبذلك تصبح الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية مرجعية علمية للمنطقة بأسرها تستطيع التأسيس للمشروع الصهيوني الموجه لتدمير الثقافة والهوية الحضارية للمنطقة العربية بأكملها في محاولة لتحقيق السيطرة الثقافية الدينية والعلمية.
3) يستهدف التطبيع الثقافي إعادة صياغة مناهج التفكير والمفاهيم الثقافية، بما ينسجم مع المتغيرات الإقليمية الدولية، أي إعادة النظر في الكثير من قضايا التاريخ العربي وإعادة قراءته وربما كتابته، لإعادة النظر في الموقف العربي الشعبي من الحركة الصهيونية العدوانية، بل وإعادة النظر في موقف العرب من الوحدة العربية القومية للأمة، بل وربما في مهوم الأمة ذاته والترويج لشرق أوسطية بدل الوحدة العربية السياسية والاقتصادية ، والتشكيك بالمنطلقات الوطنية والتحررية لتاريخ الأمة العربية، وتصوير فترات الاستعمار الأجنبي وكأنها فترات عقيمة لا تستهدف سوى الصراع الحزبي، وهي في الواقع الفترة التي شهدت كفاحا متصلا للشعوب العربية ضد الاستعمار، سقط حينها الشهداء جيلا بعد جيل وانتزع الشعب استقلاله بدمه. أما فترة كفاح الشعب الفلسطيني لرد العدوان الصهيوني فصورت على أنها فترة قائمة على الخلافات والانقسامات وأنها فترة من الفوضى والتصرفات غير المسؤوله. ويبدو أن العرب مطالبون بالشعور بعقدة الذنب لأن إسرائيل أقامت كيانها الغاصب على أشلاء آلاف الشهداء الفلسطينيين والعرب الذين ارتكبت بحقهم مئات المذابح، ومطالبون أيضاً بالاعتذار عن الحروب التحررية التي اندلعت دفاعا عن سيادتهم وتحرير أراضيهم، كما أنهم مطالبون بالتنكر لهويتهم وشخصيتهم وانكار واقع الثورة الفلسطينية وصمود السوريين في الجولان واضافتها إلى تاريخ التحرر العربي، وكل ما قدم من فكر وثقافة وابداع وتقدم صناعي، حتى يتم التنكر لكل شيء يمكن أن يفتخر به في التاريخ العربي والنضال الفلسطيني وبطولات الأجداد والرموز .
4) يستهدف التطبيع الثقافي المناهج المدرسية التي تخص الأجيال المعاصرة واللاحقة، لتنسجم مع الاتفاقات السياسية التي كرست الاعتراف بالآخر، على حساب جزء من الذات العربية في فلسطين، ويضعف منهج التربية الرسمي مناعة الأجيال القادمة تجاه عدوها التاريخي ويصادر إرادتها، فلا تستطيع اكمال مسيرة الأجيال السابقة في حمل راية النضال والتحرير. وأصبحت تلك المقررات تقوم على وجود تاريخي آخر إلى جانب الوجود التاريخي الفلسطيني، فكانت كتب التاريخ والجغرافيا والكتب الدينية من أوائل الكتب التي وضعت تحت التعديل لتتماشى مع الالتزامات التي يفرضها التقارب العربي الإسرائيلي، وإعادة كتابة التاريخ الحضاري للمنطقة العربية، من خلال تزييف العديد من الحقائق والبديهيات التاريخية المتعلقة بالطريقة الاستعمارية التي أقحمت الكيان الصهيوني في الوطن العربي، من أجل هدم التراث والهوية العربية. فبدأ الكيان الاسرائيلي بحذف شعار المناهج عن الكتب الفلسطينية، ثم حذفت بعض النصوص والدروس والآيات القرآنية والشعر، وكل ما تعتبره مواد تحريضية. لذلك لم يشمل تفسير سورة قريش وخاصة آية (إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) مفهوم بلاد الشام على أنها فلسطينيو سورية والأردن وكان للقصائد الشعرية أيضا نصيب من الحذف مثل قصيدة الشاعر عبد الرحيم محمود:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق واما ممات يغيظ العدا
5) يهدف التطبيع الثقافي إلى هدم الابداع العربي بكل اجناسه وهو يستهدف الحقوق العربية في الوطن العربي وثرواته، وكل هذا يتمثل في الابداع الأدبي والفني من شعر ورواية وموسيقى وأغاني ومسرح وسينما وفن تشكيلي فأي اتجاه يمكن لهذه الابداعات أن تسلك في ظل التطبيع والمتغيرات السياسية والاقتصادية وتغيير المفاهيم. هكذا يتم غزو وتدمير قلعة الدفاع عن روح الأمة وحراس أخلاقها وحملة رسالتها وهم المثقفون والمفكرون وكسبهم إن أمكن من خلال الحوار معهم واقناعهم بصورة الإسرائيلي الطيب المظلوم الذي يؤمن بالتعايش مع العرب، ودعوة المثقفين للاطلاع على التجربة الإسرائيلية والانبهار بالمجتمع المتطور عبر دعوات للاستراحة في منتجعات سياسية ومنح التفرغ الإبداعي وتبادل الزيارات لاحقا بين المثقفين من الجانبين، والنتيجة تسويق الكيان الغاصب ثقافيا للعالم العربي ، بل وترجيح الثقافة الصهيونية المزيفة على ثقافتنا وتراثنا وهويتنا، ليس بسبب قوة وفعالية ما يسمى بالثقافة الإسرائيلية ورجاحتها. فهذا الفكر وهذه الثقافة ليست سوى ثقافة عنصرية توسعية استعمارية، عاشت على أرض احتلتها وهجّرت شعبها وانتحلت حضارتها وسرقت تراثها من فن وصناعة وزي وأدب ….الخ. لأن هذا الفكر دخل ضمن معاهدات سلام مع بعض الدول العربية، فإنه تمكن من الوصول لمآربه في كل النواحي.