كان صبيان يجلسان على جدار من الحجارة، على هامش أحد الممرات الفرعية، يحدِّقان في الشارع العام المؤدي إلى البلدة. كان دخان أبيض شيطاني ينتشر في الشارع البعيد. وكانت جمهرة كبيرة من الشبان ذوي الرؤوس الملتفعة بالكوفيات يظهرون للحظات بين الحين والآخر، ثم يتلاحمون مع الدخان حيناً، ثُم سرعان ما يبتعدون عن النفث الشيطاني الخانق.
كلَّما بدا أن المواجهة خفَّت حدَّتها، عادت الرؤوس الملثمة تنطلق كالمردة من طيات الدخان، وتقذف الحجارة. كانت أصوات القنابل الغازية تلعلع من جديد في أنحاء البلدة بوحشية أشد من ذي قبل. أما العلم فقد ارتفع خافقاً منذُ الصباح، وما زال يرفرف. نظر الصبيان إلى العلم. قال أحدهما، وهو لا يتجاوز ثمانية أعوام، أن ليس ثمة فرق بين علم البارحة الكبير والعلم الجديد لأن قيمته بنفسه وألوانه.
– “ولو كان مرقَّع؟” سأل الآخر.
– “أيوه، حتى لو كان مرقَّع.. برضة بظل علم..”، قال الصبي الآخر وهو واثق من كلامه، “هذا اللي قاله نضال، أخوي..”.
كان العلم يرفرف. أخذا يراقبان ما يجري وهما فوق السلسلة الحجرية. من جانب الممر الفرعي، كان أهالي البلدة يمرُّون مسرعين جيئة وذهاباً. كان الأولاد والبنات من جيلهما يأتون بأخبار المعركة، وبعضهم غلبتهم الحماسة فأخذوا يركضون نحو الدخان الأبيض بجرأة وتحدٍّ. كانت الأمهات والعجائز يصرخن ويتشاورن، وبعضهن ينقل المياه بالأوعية. كانت الفتيات يدخلن البيوت المجاورة، ويخرجن بسرعة وهن يصحنَ، “بدنا بصل.. جيبوا بصل!” أما كبار البلدة وشيوخها فكانوا يُتعتعون الصخور الكبيرة على الممرات لكي تكون حاجزاً خلفياً في حالة أن يخترق الجنود الحواجز الأمامية. وكان بعض الشيوخ ينقل الحجارة إلى ميدان المعركة في الشارع العام، كلٌّ حسبَ مقدرته.
– “بحِّر! هناك سعيد الحداد بضرب حجارة عَ الجيش!” قال أحد الصبيين.
– “لأ، هذا أخوي!” قال الصبي الآخر، الذي كان يمرِّن يديه بمقلاع، بنبرة تنمُّ عن ثقة كبيرة بالنفس.
احتج الآخر وأصرَّ، “لأ، هذاك سعيد الحداد..”.
- “بحِّرْ في الكوفية!” صاح الصبي الواثق، وهو ينظر فيما بين الدخان، “هذيك الكوفية كوفية أبوي! بس نضال، أخوي، لابسها..”.
نظر إليه الصبي الآخر باستهتار، “كيف عرفت أنها كوفية أبوك؟”.
– “بعرفها من بين ألف كوفية، وعلى بُعد مية متر..”، قال الصبي الواثق بنفسه، وأخذ يحدق بالدخان والرؤوس الملثمة حتى اهتدت عيناه إلى كوفية أبيه التي التفعها أخوه، “مثل ما بعرف أنو هذه أمينة”.
مرَّتْ أمينة قربهما بسرعة، متجهة نحو الشارع العام. لكنها لمحت الصبيين، فالتفتت إليهما للحظة، “ما تعمل ايشي، أنتَ واياه!”.
صاحت بصوت مرتعش، وذهبت. كان الصبي الواثق بنفسه ما زال يتابع الكوفية بعينيه، ولم يحرك ساكناً لنداء أمينة. أما الصبي الآخر فتململ، كأنَّه أحسَّ بذنب اقترفه، وقال مقترحاً، “يللا نعمل ايشي! ليش ما ننقل حجارة للشباب؟”.
– “أنا بنقلش.. أنا بس بضربها عَ الجيش..” قال الصبي الواثق بنفسه، وأسقط عينيه إلى الأرض.
– “طيب، يللا..” قال الآخر، نهض واقفاً، وتهيأ ليحمل حجراً كبيراً. “أنا بنقل حجارة، وأنتَ تضربها!”.
– “أنا مش رايح!” قال الصبي الواثق بنفسه، وما زال المقلاع في يده. وألقى نظرة سريعة على الشارع البعيد. في لحظة واحدة لمح كوفية أبيه من بين كوفيات عديدة.
– “أنتَ جبان!” قال الصبي الذي شعر بالذنب، وحمل حجراً كبيراً، واتجه إلى الشارع العام.
– “(وَلَـكْ) أنا بضرب بالمقليعة!” صرخ فيه الصبي الواثق بنفسه، “(ولك) أنا مش جبان.. بضرب بالمقليعة.. علَّمني نضال.. سامعني؟”.
تناهى إليه صوت زميله الخافت الساخر به، “طبْ، ليش ما بدَّك تعمل ايشي؟”.
– “أنا معيش كوفية..”، قال بصوت خافت، وعاد يجلس على الحجارة، حيثما كان. من المؤكد أن الصبي الآخر لم يسمعه، لأنه كان آنئذ خلف الأشجار التي تغطي جانب الطريق القريب. أخذ الصبي يحدق في راشقي الحجارة حتى رأى الكوفية، فطأطأ رأسه.
عادت أمينة ووقفت أمامه. نظرت إليه. لم يُطِق أن ينظر إليها.
اخفض رأسه للأسفل، وترقرقت في عينيه دمعة حزينة.
– “ما تقولي ايشي!” بادرها بالكلام، كأنه قرأ ما يدور بخلدها.
أمينة خطيبة أخيه نضال. كانت كأخته، رغم أنه ليس لديه أخوات. أمينة في العشرين من عمرها، جميلة الوجه وصافية العينين، وطيبة القلب.
اقتربت منه. “ليش ما تعمل ايشي؟” سألته. لم يقل شيئاً، وظلَّ رأسه مطأطأ. “ليش؟ أنتَ مش صغير؟” لامته، ورفعت رأسه بيدها. فنظر إليها.
– “يعني لازم تغطي راسك؟ بتخاف عَ حالك؟” قالت واقتربت منه، “بحِّر، في شباب كثير مش لابسين كوفيات!”.
– “بس.. بس نضال حكى لي أنو اللي بغطي راسه ببطل يشعر بخوف، وبصير يحسُّ كأنَّه كل القرية!” قال بصوت مرتعش، كله إثارة، “واللي بكشف راسه يمكن يشعر بفخر قدام الناس..”.
– “يا ربي!” قالت أمينة في نفسها، “قديش بيكبروا الصغار بسرعة!” ونظرت إليه، وسألته، “بس؟ ما في سبب ثاني؟”.
تململ، وأزاح نظره عنها، وأخذ ينظر نحو الأفق، حيث يتلاحم الشبان والمتظاهرون مع الدخان الشيطاني الذي أخذ يتلوى كحية عملاقة، بينما تردَّدت في الأجواء طلقات نارية. كانت أمينة تعرف بأنه يوجد سبب آخر لعدم مشاركة الصبي في ما يجري؛ أراد الصبي أن يأخذ الكوفية التي التفعها أخوه، نضال، وهي الكوفية ذاتها التي التفعها والدهما يوم استشهد قبل سنوات في عملية ضد الاحتلال. لكن نضالاً احتفظ بالكوفية لنفسه، ولم يسمح لأخيه الصغير بأن يأخذها.
– “لهذا السبب برضة..” قال الصبي بصوت خفيض، مسلِّماً بالحقيقة.
نظرت إليه أمينة، وملأها الفخر. “أنت مش ممكن تكون جبان!”.
– “أنا قلت هيك لأيمن!” قال وضحك مسروراً.
– “يعني؟”.
– “يعني راح أقوم ع الشارع..” قال ونهض، وفي يده مقلاعه. لكن أمينة أوقفته. نزعت عن رأسها شالها المطرز بأعشاب وأزهار زاهية الألوان، وكان له إطار مطرز بالطيور والحمام.
رأى الصبي شعر أمينة، الجميل، المُحَـنَّى بلون الأرض الصهباء.
استسلم لها وهي تلفّ الشال على رأسه الصغير. لم يظهر من رأسه إلا عيناه. ألقى نظرة خاطفة على الشارع. كان الرصاص يزأر بوحشية، ونفثت الآلات الحديدية الشيطانية لهبها الأبيض الخانق.
– “هالحين، أنتَ فدائي وضارب حجارة مثل أبوك وأخوك..” قالت له، وضمَّته إلى صدرها. ركض متَّجهاً نحو الشارع العام. “إن مسكوك الجنود وسألوك عن المنديل، قول إنه في مثله كثير بالقرية. وإذا بدهم صاحبته، قول لهم يعتقلوا كل النسوان أو يعتقلوا القرية كلها!” صرخت بصوت عالٍ.
نظر إليها، هزَّ رأسه، ثم استدار نحو الشارع العام. في لحظة ما، وقف لينظر إلى الكوفيات. في تلك اللحظة الأبدية لمح كوفية أبيه تهوي ببطء على الأرض، ولمح الشبان والأهالي يندفعون من كل اتجاه نحو نضال، الذي خرَّ على الأرض، وهم ينبثقون من بين الدخان الأبيض. نظرة هلع قفزت إلى عينيه.
– “نضال!!! أنا جاي! صرخ وجرى نحو المعركة في الشارع العام، حاملاً بيده مقلاعاً وحجراً.