المعصرة.. رواية العهد المفقود للحكاية الفلسطينية
“في الحبْو الأول للزمن الزاحف قريبا من أعتاب العشرينيات من القرن الماضي، ولد إسماعيل لزوجين مفْعمين بالحب، عبد الفتاح وخديجة، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى حمل أوزارها، بدأ يشق أشهره الأولى شاقا عصا الحياة حتى خفت عويل المدافع، وانقشع دخان البارود، وأعاد المنتصرون تقسيم العالم، فرسموا من الخرائط الجديدة ما رسموا، ومزقوا من قديمها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا”.
ذلك هو إسماعيل، الطفل اليتيم، بطل رواية “المعصرة” للكاتب الفلسطيني نهاد خنفر- الذي ينحدر من قرية السيلة جنوب مدينة جنين، شمال الضفة الغربية، وأستاذ القانون بعدد من الجامعات البريطانية- وتلك أقصوصة من حكايتها التي تتشكل وتكبر على يد بطلها بتفاصيل جميلة تتقارب فيها بساطة اللغة مع ألوان التراث الفلسطيني لتشد القارئ.
وتتغذى الحبكة الرئيسية للرواية من خلال حبكات فرعية قوامها بعضٌ من قادة الثورة المحليين وأحوالهم، من فرح وحزن، ندر الطرق إليها بأعمال روائية أو درامية فلسطينية أو عربية سابقة، كالشاعر والقائد الثوري عبد الرحيم محمود وأمثاله “أبو جلدة” و”العرميط” والشاعر إبراهيم طوقان.
رواية المعصرة – نهاد خنفررواية المعصرة هي الثانية بعد فتاة من بابل للروائي نهاد خنفر وتتناول حقبة زمنية يندر تناولها أدبيا (مواقع التواصل)
البطل اليتيم
كل هذا يحيكه خنفر عبر شخصية الرواية الرئيسية (إسماعيل)، الطفل الذي تيتم مبكرا في قريته “بُرقة” قرب مدينة نابلس بالضفة الغربية، حيث تدور أحداثها الأولى وترصد تفاصيل حياته وكفاحه كبطل شعبي له دوره الاجتماعي والوطني.
وتعد حالة اليتم التي عاشها إسماعيل وهو ابن عامين محور الرواية التي يراد لها أن تتحدى الواقع وتنتصر عليه، فيحتل الحزن والحب والثورة بإسقاطاتها الاجتماعية والسياسية كثيرا من فصولها.
وهنا تقدم الرواية -يقول خنفر للجزيرة نت- “سردا سلسا يصور أحداثا وشخصيات حقيقية تنتمي لذلك الزمن بقالب سردي روائي مشوق”.
ولجانب اليتم، يعيش إسماعيل جورا اجتماعيا تتصاعد معه الحبك، إذ تُجبر التقاليد أُم إسماعيل على الزواج من عمه الذي يسومها سوء العذاب، ويزيد ذلك الطفل الصغير سخطا فيقرر الهرب ليلا.
لكن حاله بعد الهرب لم يكن أفضل، فثمة ويلٌ آخر ينتظره داخل معصرة الزيتون بالقرية المجاورة التي جاءها عاملا، وهو استغلال ولؤم صاحبها عليه، لكن ذلك شكَّل انفراجة له عندما رآه الثوار وأعجبوا بحنكته ورباطة جأشه وضموه لصفوفهم لقتال الإنجليز.
وصقلت الحركة الاجتماعية لإسماعيل شخصيته للقيادة والعمل الثوري، ثم صداقته مع “القادة الكبار” بفترة الثلاثينيات أمثال “عبد الرحيم محمود” و”عبد الرحيم الحج محمد” و”عبد القادر الحسيني”.
ووسط هذا يقول خنفر تتطور شخصية إسماعيل بمكتسباتها الاجتماعية والوطنية، وتتوسع رغبته بالانتصار على كل الظروف والعقبات “فكلما أخفقت به الحياة وهوت، كان مرآة نفسه، لم ينتظر يوما أن يبلغه القدر، فقد حافظ على ماء الحياة متدفقا من ثناياه”.
المرأة.. الوحدة.. النضال
ولا تهمل الرواية الجوانب التي حكمت السياسة الداخلية الوطنية، وتتناول المقاتلين العرب “السوريين والمصريين والكويتيين وغيرهم” الذين حاربوا الإنجليز ومشاريعهم الاستعمارية وتمزيق الوطن.
“أعمل جراحو الجغرافيا السياسية مشارطهم في الأجساد المثخنة، يفتحون جرحا هنا، ويخيطون جرحا هناك، كيفما كان، غير آبهين بتعفن الجروح أو تقرّحها ولا استمرار نزيفها أو تشويهها للأجساد، هكذا قسمت الأوطان وشيدت الحدود الوهمية على جسد الدولة العثمانية المتهالك”.
وفي “المعصرة” حضرت الوحدة الوطنية ودور المرأة ونضالها المتنوع، وتوظيف الخط العاطفي عبر قصة الحب التي جمعت إسماعيل وزُهرة (ابنة صاحب المعصرة) وتخللتها تفاصيل أضفت مسحة ناعمة على تجاعيد الحياة وتعقيداتها آنذاك.