بين الغيمات

قصة بقلم الكاتب: حمزة التلاوي

كانت الأم حزينة، وقد أشفقت على ابنتها، وكانت قلقة من أن المطر الشديد والرياح القوية سوف تهدم الخيمة وتبلل الأشياء.

ذات يومٍ جميل في ربيع بهيّ استيقظت الفتاة “أحلام” صباحاً مسرعة نحو أمها، قالت لها: أمي، أريد أن أصير فراشة. ضحكت الأم بفرح واحتضنت ابنتها ثم قالت: سأهديكِ فراشة في عيد مولدكِ القادم، أما الآن فلديكِ موعدٌ مع المدرسة، وسوف تحزن ساحاتها وحديقتها إن تأخرتِ عن اللعب في باحاتها، وسوف تخاصمكِ سبّورة الصف إن لم تزيني خطكِ الجميل على سطحها.

عادت أحلام من المدرسة وكانت غاضبة من لون السماء؛ حيث تغطّت بالسواد وبالدخان. قالت الأم: تعالي يا صغيرتي الحلوة، نامي في حضني الآن. لا تحزني وتخيلي أنكِ تمشين بين الغيمات.

نامت “أحلام” في حضن والدتها وغطّت في نوم عميق، وبدا في حلمها أنها تمشي بين الغيمات، شاهدت قوس قزح الجميل الذي أبدعه الخالق كلوحةٍ بديعة تظهر عظمة الله في شؤون الطبيعة؛ إنه كبيرٌ جداً وطويل وضخم، ليس كما كانت تراه من على الأرض، ألوانه جميلة وفاقعة، والأرض من تحته مثل لوحة رسام مبدع.

قالت للون الأخضر: سأسميك الأرض الخصبة، وللون الأزرق قالت: أنت السماء الصافية، أما اللون الأحمر فحذّرته وقالت له: لا تطغَ على بقية إخوتك الألوان.

كانت تركب قوس قزح مثل حصان تصيح فرحاً عندما تمرّ الغيوم من أمامها، نادت على غيمة كبيرة مرّت من أمامها: كيف حالك أيتها الغيمة الكبيرة؟.

ردّت عليها الغيمة: أنا بخير يا صديقتي، وأحمل الخير في داخلي. بعد قليل سيهطل المطر من جعبتي ليسقط على الأرض، إن المطر كله خير؛ لأنه يسقي الشجر والأرض لتثمر منها الطيبات؛ المطر يا عزيزتي هو رمق الحياة والإنسان، والماء شيءٌ مقدس فبدونه لن يعيش أحد على هذه المعمورة.

– ما أكرمكِ وما أعظمكِ أيتها الغيمة.

– ما اسمك أيتها الفتاة اللطيفة؟ قالت الغيمة العابرة.

– اسمي أحلام. وأنا أحب اسمي.

– وهل تدركين ماذا يعني هذا الاسم؟

– بالطبع؛ فالإنسان لا يستطيع العيش بلا حلم يسير وراءه، حتى يحققه ويحقق به ذاته، بكل أمل وتفاؤل، لا يحيا البشر بلا أمنيات وطموحات.

– ومن علّمكِ هذه المعاني الجميلة؟

– أمي. إنها دائماً تعلمني أشياء عظيمة، سوف تهديني فراشة في يوم مولدي القادم، إنها أجمل أمّ في العالم، لقد علمتني حب الحياة، وعلمتني أن يكون لي أحلام وأمنيات حتى تكون حياتي سعيدة وجميلة ومليئة بالمعاني والقيم والمُثل.

-حسناً فعلتْ أمكِ وأبدعت في تعليمكِ، أنتِ فتاة لطيفة، أتمنى لكِ حياة هانئة. والآن اسمحي لي أن أرحل فلديّ عمل كثير، هناك من يحتاجني، يجب أن أهطل عليهم الأمطار كي ينعموا بالحياة.

– شكراً لكِ أيتها الغيمة، وشكراً للخير الذي تحملينه في جعبتك، إلى اللقاء.

استيقظت أحلام من نومها العميق ومن حلمها الجميل على صوتٍ مزعج وقوي، وراحت تبحث عن أمها، لكنها لم ترَ غير السواد يغطي المكان، والدخان الأسود يقطع الأنفاس. دخلت أمها عليها بسرعة كبيرة فحملتها وصارت تركض مسرعةً بها. كان الجميع هارباً مسرعاً: منهم من حمل أغراضاً بسيطة معه، ومنهم من لم يستطع أن يحمل شيئاً؛ حتى أن البعض نسي أولاده خلفه. إنها الحرب!.

– يا إلهي. صاحت أحلام، وصارت تصرخ بأعلى صوتها والدموع تغطي وجهها، وملابسها أصبحت رثة، كل شيء أصبح لونه أسود. صرخت بأمها التي كانت تركض وسط النار والدمار: إلى أين تذهبين يا أمي؟ لقد تركتُ كل أشيائي في البيت. ألعابي وكتبي المدرسية وأقلامي ودفاتري وفرشاة أسناني وحذائي الدافئ. لم تستطع الأم التكلم مع ابنتها، إلى أن وصلت لمكان آمن، أخذت تمشي وكان أناسٌ كثيرون يمشون أيضاً، الجميع كان متعباً، لا يوجد معهم ماء ولا طعام. أما أحلام تلك الفتاة المسكينة فقد كانت متعبة وحزينة، وكانت تشعر بالعطش الشديد، احتضنت الأم ابنتها وكانت دمعة قد سالت على خدها:

– اصبري يا ابنتي، بعد قليل سيتوفر الماء وستشربين ونشرب جميعاً.

– ولكن إلى أين نحن ذاهبون يا أمّاه؟ صاحت أحلام وهي حزينة وشاحبة. كانت تريد أن تقول لها: نامي بحضني واحلمي بأحلام جميلة، لكنها لم تستطع لأن أحلام لن تصدقها هذه المرة. لكنها قالت بصوت حنون: سوف نذهب إلى مكان جميل يا أحلام، وسوف تلعبين هناك.

في الليل وصل الجميع إلى مخيم للاجئين، المكان بارد جداً، والغبار يملأ الأجواء، وقف جميع الناس في طابور، الواحد تلو الآخر، وأخذ الجميع ينتظر دوره، وبعد ساعات طويلة حصلت الأم وابنتها على قليلٍ من الطعام والشراب، ثم انصرفتا إلى الخيمة كي تناما وتحصلا على قسط من الراحة. كانت الخيمة باردةً وقاسية، لا تشبه بيت أحلام الدافئ والحنون. ظلت أحلام مستيقظة لم يعرف النوم طريقاً إلى عينيها رغم أنها متعبة. احتضنت وسادتها الصغيرة وكانت تشعر بالأسى والهموم وتمنّت في أعماقها أن يكون كل ذلك حلماً، لكنها سرعان ما قالت: لا هذا ليس حلماً لأن الأحلام جميلة وليست مخيفة، الأحلام تجعل الناس سعداء. هكذا قالت لي أمي التي لا تكذب أبداً، إنه ليس حلماً بل كابوس مزعجٌ ومخيف. أتمنى أن ينتهي عند الصباح، يا رب ساعدني لأتخلص من هذا الكابوس.

في الصباح نظرت أحلام إلى السماء، فشاهدت الغيمة الكبيرة وهي تسبح في السماء، نهضت مسرعة وصارت تركض وتركض لعلها تلحق بالغيمة، لكن الغيمة كانت قد اختفت، رجعت إلى باب الخيمة حزينة، وجلست وحيدةً، وبقيت تنتظر عودة الغيمة الكبيرة التي علّمتها بأن المطر أمرٌ فيه الخير للناس.

وفي هذه الأثناء ظهرت غيمة ضخمة جداً، أكبر بكثير من تلك التي تعرفها أحلام، نظرت إليها وكانت الدهشة تملأ عينيها البريئتين، ثم ضحكت أحلام فجأة وصاحت: إنه المطر، ركضت نحو أمها وسحبتها من يدها، وهي تردد: المطر، إنه المطر يا أمي.

كانت الأم حزينة، وقد أشفقت على ابنتها، وكانت قلقة من أن المطر الشديد والرياح القوية سوف تهدم الخيمة وتبلل الأشياء، وسوف تتحول الأرضُ إلى وحل وطين، وسوف تصبح الحياة أصعب بكثير من السابق، لكنها ابتسمت وضحكت مع ابنتها رغم كل الحزن الذي كان في داخلها وقالت لها: نعم يا ابنتي؛ المطر كله خير.

لقد رسم المطر ابتسامة جميلة على وجه أحلام رغم غزارة الأمطار وقوة الرياح العاصفة، ورغم الطين الذي حوّل الأرض كلها إلى أوحالٍ ومستنقعات، ابتسمت لأنها تؤمن أن الخير دائماً موجود ولا يمكن أن يزول عن العالم، الخير موجودٌ في السماء ولا ينقطع. ظلّت دائماً تنظر إلى السماء وترجو الله ألا تفقد الأمل في يوم من الأيام، وما زالت تحمل الأمل في صدرها إلى أن كبرت في المخيم الذي احتضن أحلامها وآمالها ولحظات الحزن التي مرّت، وأصبحت شابّة في ريعانها وهي ما تزال تنظر الى السماء كلّما أمطرت، وتلحق بالغيمات الكبيرة التي تمر من فوق سمائها، كلما ظهرت السُحب الكبيرة تذكرت أمها وهي تقول لها: تخيلي أنكِ تمشين بين الغيمات وأطلقي أمنياتكِ. لم تكن أمنيات أحلام صغيرة ولا خيالية، إنها أحلام حقيقية، ومهما طالت الأيام في المخيم لا بد أن تتحقق أمنيتها التي لطالما بقيت تردد في أعماقها ووجدانها حنينها الدائم والعارم: أمنيتي أن أعود إلى وطني.

Exit mobile version