“بيوت”.. عندما اندلق الأدب صناديقَ على الخشبة
“البيوت” هو عنوان رواية هجس بها الشاعر الكبير محمود درويش، ولم ينجزها، هو الذي كان صاحب فكرة زاوية “ذاكرة مكان”
في فصلية “الكرمل”، أمّا “بيوت” فهو عرض أدبي مسرحي من إنتاج مسرح السرايا العربي في يافا، وإخراج الفنان كامل
الباشا، بمشاركة نخبة من شعراء وكتّاب فلسطين، واحتضنت قاعة مسرح عشتار بمدينة البيرة، عرضاً لها، في إطار جولة
عروضها، قبل أيام.
وعلى الرغم من تفاوت مستوى النصوص التي قدّمها المشاركات والمشاركون، واختلاف مستوى أدائهم الذي يلامس
المسرح في جوانب منه، وبعض الأخطاء اللغوية في الإلقاء، والتي تجعل المتلقي الذي تدربت أذناه على “صحيح اللغة”، أو ما
اعتقده كذلك، في حالة “قطع” ما بينه وبين ما يقدّم أمامه على أهميته.. على الرغم من تلك الملاحظات غير الجانبية، فإن
العمل لا شك من بين الأعمال المهمة، التي تقدم مقترحاً مغايراً، إلى حد ما، وبرؤية عميقة، علاوة على ما تحمله من
مضامين مؤثرة تلقي القبض على المُشاهد في عديد الأحايين.
ورغم أن “البيت” هو الثيمة التي التف حولها الكتّاب والشعراء: إياد برغوثي، ورجاء غانم، وعلي قادري، وعلي مواسي،
وفردوس حبيب الله، ومحمود أبو عريشة، ومي كالوتي، إلا أن كلاً منهم قدّم “بيته” أو “بيوته” على طريقته، إلقاءً وحركة، أبدع
في إدارتها كامل الباشا، في حين كان الديكور على بساطته من بين “أبطال” العرض وهو ما يحسب لمعدّه أحمد أسعد، كما
الإضاءة التي أبدع فيها محمد شاهين.
بالنسبة للصناديق:
وكانت الصناديق هي اللعبة التي تحمل ليس فقط كل الأسرار التي لم يقلها أصحابها، أو تحبس داخلها تأويلات المتلقين لما
شاهدوه واستمعوا إليه، بل هي الرابط الفعلي الثابت تارة، والمتحرك تارات، ما بين اللوحات الفردية والجماعية، بل تشكل
محوراً أساسياً في سينوغرافيا العمل، بالإضافة إلى الصوتيّات الفيروزية في غالبيتها، باستثناء اللوحة الختامية التي تألقت
في تجسيدها، أداءً ونصّاً، فردوس حبيب الله على وقع “يا مولاي”، رائعة النقشبندي التي لحنها العبقري بليغ حمدي.
لم ينسَ إياد برغوثي أن يحضر “ما يكفي من الكراتين” لكي يحزم بها الجمع ذاكراتهم، قبل نقلها معهم إلى “البيت الجديد”،
كما لم ينسَ أن يحضر “ما يكفي من الجرائد”، ليغلف بها الذكريات.. سيضع في الكراتين أشياء كثيرة، من بينها: مشهد الميناء
المضاء في الليالي الصافية، وأزهار الليلك من شبّاك المطبخ في أيار، وصوت النقّار السوري المثابر، وتأوّهات عشيقة جاره
المتواصل، ورائحة بول الكلاب في بقع الشارع، وعطر الياسمينة العجوز عند مدخل البيت.
رجاء غانم:
أما رجاء غانم فهي “اليد السحرية في هذا البيت، اليد المفعمة بالزهوّ والأمان (…) ودم هذه الدار الذي يجري بكل قوّة”،
معترفة في حديثها عن “الجدران” والأرواح الهائمة في البيت، عن حبها لبيتها في بيروت، الذي “كان طعمه مختلفاً، وكذلك
رائحته”، وأنها “هناك، كحيث كانت يد أخرى تقوم بالمهام المقدّسة”، كانت طفلة تنهل “من زوايا البيت، والبلكون، والصالة
الخاصة باستقبال الضيوف، مع صورة على كامل الجدار لشلّال ماء غزير تزينه أشجار الدفلى”… لكن “كانت بيروت، وكان
التفجير، طار البيت”، وطارت طفولتها فيه.
ويطلب علي قادري منها ألا تفتح “ألبوم الصور القديم”، فهو لا يريد أن يسكب “على الحنين شاي العمر البارد وقهوة الصباح
الثقيلة”، كما أنه ليس مستعداً “لإتمام ما تبقّى” من حاضره بالإبر والعقاقير، فجسده لن يكفيه، “ليحمل الخسارات والنوافذ
والشرفات الآيلة للسقوط” في قلبه.
في إطار تكوينات مسرحية:
وكغيرها، وفي إطار تكوينات مسرحية، أضفت إلى العمل مغناطيسية ما، خرجت من بين الدخان الكثيف والصناديق المضاءة
التي تتخذ أشكالاً مختلفة في كل مرّة، تخرج مي كالوتي علينا بسؤال “ماذا يفعل البيت حين نغيب؟”، مفترضة أن الكنب، لا
بدّ، أن “يأخذ راحته عن آخره، فيتمطى هنا وهناك، يتناول الشيبس ويشرب الكولا، يشاهد محطّات الأغاني الهابطة والأفلام
البذيئة، فلا يمكن أن تكون كلّ هذه الكاسات عادت من المجلى إلى رفة القعدة وحدها.. إنه الكنب ومخدّاته التي تتقلب على الأرض”!
وتوقظ طرقة الباب محمود أبو عريشة، كما يوقظه “صوت القبقاب نازلاً الدرج المؤدي إلى بيت الجد والجدة، مستشعراً نَفَسَ
والده، ومسلّماً إلى فكرة أنه قد نسي إلى الأبد، و”فات موعد المساء مع قنّينة الحليب”.
أما علي مواسي، فخطفته غيلان وادي الخرّوبة، بينما كان يزور خرّوباته في زيتوناتها، معترفاً أنه لم يصغِ “للرنة المخيفة”،
وهي “تخرج من حناجر النسوة”، اللواتي كنّ يتحلقن لهم إن تجاوزوا “البئر المحفورة في الصخرة البلاطة، حيث التينة ترتفع
من توقّفها عن العمل من زمن لا علم لأحد به” سوى جدّه.
وبينما كان لكل أديب أو شاعر حضوره المسرحي، كان المشهد الختامي مع فردوس حبيب الله ساحراً، ليس لصوفيّته
فحسب، بل لتماهي النص وصاحبته مع “يا مولاي”، نصّاً وصوتاً ولحناً، حد البكاء، وهي تردد ما بين سرد وآخر: “ضع قلبك بين كفيك”.