جمهور السينما في القدس.. عن التجربة الأولى لمهرجان القدس للسينما العربية
“كانت في القدس ثلاثة دور للسينما تقع اثنتان منها في شارع صلاح الدين، والثالثة في شارع الزهراء. كنت، وأنا طالب في المدرسة الرشيدية، أقطع الشارع نحو سينما الحمراء، أتفرج على الملصقات التي تحمل صوراً لممثلين وممثلات، ثم أذهب للغاية نفسها إلى سينما النزهة التي تقع في آخر الشارع، ولا تبعد عن سينما الحمراء إلا مئتي متر أو أكثر قليلاً، وحين ظهرت سينما القدس في شارع الزهراء تعزّز حضور السينما في حياة المقدسيين والمقدسيات. وكان من اللافت الانتباه أن كلاً من دور السينما الثلاثة كانت تقدم للجمهور ثلاثة عروض في اليوم الواحد؛ كل عرض يشتمل على فيلمين بتذكرة واحدة. دخلت سينما الحمراء أول مرة وأنا في الثالثة عشرة من العمر، لمشاهدة فيلم “سنوحي” المصري، ولم يتوقف شغفي بالسينما منذ ذلك الوقت إلى الآن، كان ذلك في العام 1954.”
حين قرأتُ هذه المقالة للكاتب المقدسي محمود شقير بعنوان “عن القدس والسينما”، بدأتُ أنا ايضاً أبحث عن ذكرياتي مع السينما في القدس، وكواحدة من الجمهور، ولأنني عشتُ في فترة زمنية مغايرة لتلك التي شهدها شقير، وبدأتُ مرحلة النضوج وأنا شاهدة على إغلاق دور السينما في المدينة خلال أحداث الانتفاضة الأولى وما تلاها، فقد كانت هذه القطيعة وهذا الفراغ ربما محركاً أساسياً لي حين عدتُ إلى المدينة للتفكير في “مهرجان القدس للسينما العربية”.
حين سُئلت عن الجمهور وعلاقته بالسينما في مدينة تعاني أوضاعاً سياسية واجتماعية استثنائية، وجدتُ أن العنوان واسع وعريض، لكن الأجوبة والاحتمالات ممكنة، وسأحاول ذلك، في ضوء مبادرتي التي أطلقتها السنة الماضية 2020، وهي “مهرجان القدس للسينما العربية”، في قلب مدينة على خط المواجهة والنار، وفي عام استثنائي بعد انتشار فيروس كورونا.
ما بين ذكريات محمود شقير، وحال المدينة وحياتها الثقافية بعد كل تلك الأعوام، وما بين تجربتي العام الماضي، تساءلت: أين يقف الجمهور الفلسطيني المقدسي من السينما، أو أين يقف من الفعاليات الثقافية؟ هل تجربة الذهاب إلى السينما أو لحضور فيلم هو نشاط ثقافي في ذهن الجمهور، ويحرص على المشاركة فيه؟ حتى الآن لم أعرف أجوبة محددة، إلا إن هناك ما يمكن قوله والبناء عليه، وذلك من تجربتي الخاصة خلال تحضيراتي لـ “مهرجان القدس للسينما العربية”، ومن خلال لقاءات بعض الأصدقاء الفاعلين في القطاع الثقافي، وخصوصاً أن معظمهم، حين شاركته فكرة المهرجان، نصحني بالتراجع عن الخطوة بالقول: إن الناس متعبة وغير مهتمة بحضور فعاليات ثقافية. وعلى الرغم من ذلك كان هناك إحساس في داخلي يرفض تصديق ذلك والتسليم به، فقد كنتُ على قناعة بأن الفعاليات والأنشطة الثقافية حتمية في كل مدينة، وأن القدس، تحديداً، كانت غنية دوماً بفضائها الاجتماعي ومركزيتها الثقافية، وأستحضر هنا مداخلة للمؤرخ وأستاذ التاريخ عصام نصار، في مؤتمر سنوي عقده المتحف الفلسطيني، حين تحدث عن استعادة مركزية القدس في الثقافة والفنون، مركّزاً في حديثه على التاريخ الحِرفي والفني للقدس، وعن دور المدينة كمركز للإنتاج الفوتوغرافي والأيقوني الفني والإبداعي الأدائي، مشيراً إلى أنه، وعلى الرغم من المكانة الدينية والأثرية للقدس، فإن ما خلق مركزيتها وجوهرها هو فضاؤها الاجتماعي، وموقعها المتقدم في الإبداع الفني والمعماري في المنطقة، مختتماً مداخلته بالتركيز على أهمية إعادة النظر والتذكير بالدور المحوري للقدس في الحياة الفلسطينية المعاصرة، ليس من باب التذكُّر النوستالجي للماضي، بل لاستعادة مكانة المدينة في المخيلة الجَمعية الفلسطينية كخطوة على طريق الاستعادة المادية. وفكرة الاستعادة الثقافية تلك، التي يتحدث عنها نصار في طريق الاستعادة المادية، كانت تعني لي، كمقدسية، أن أمضي قدماً في تنظيم مهرجان للسينما في قلب المدينة.