ذاكرة الشهداء

عمر جمعة

ما الذي يخلدُ تضحيات الشهداء، الذين لولا دماؤهم الزكية الطاهرة وأرواحهم المتسامية في عليائها لما استمرت مقاومة الشعب الفلسطيني لأكثر من مئة عام وتزيد، وكيف يبقى هذا الشهيد حياً في ضمائرنا ووجداننا؟.

سؤال يواجهنا كثيراً ونحن نرى قوافل الشهداء تترى واحدة تلو الأخرى، والتضحيات تتعاظم، حتى حينما ترخي مشاعر الإحباط واليأس بثقلها على شارعنا المتخم بالوجع في الداخل والشتات، أو تتباين المواقف السياسية محلياً وعربياً وعالمياً تجاه هذه القضية أو تلك، أو نختلف في اتخاذ هذا الموقف أو نتبنى تلك القناعة.

غير أن الإجابة عن هذه الأسئلة ليست مستحيلة، لأننا يمكن أن نختلف في كل شيء، إلا تضحيات الشهداء الذين ينظر شعبنا والأمة كلها إلى عطاءاتهم بكثير من التقديس والتبجيل والإجلال والاحترام، بل يكادون أن يكونوا الأمثولة التي تتجسّد فيها قيم الفداء والشجاعة والمقاومة لأجل الحياة، لا في سبيل الموت وحسب.

وعلى هذا فإن المطلوب اليوم باعتقادنا أن تلتفتَ المدوّنات التاريخية والأعمال الإبداعية الشعرية والقصصية والروائية وأدب الأطفال والناشئة أكثر إلى هؤلاء الأبطال، وتنبري مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة، فضلاً عن الفنون المسرحية والسينمائية والتشكيلية إلى تخليد تضحياتهم واستحضار أسمائهم والإضاءة على حياتهم الشخصية والنضالية لتتعرف الأجيال اللاحقة عليهم وتتمثل القيم التي آمنوا بها وضحوا بأرواحهم لأجلها، ولاسيما أننا قدّمنا منذ ما قبل نكبة 1948 وحتى اليوم مئات آلاف الشهداء، فمن عرف محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي وعز الدين القسام وعبد القادر الحسيني، لا بدّ أن يتعرف أكثر إلى وديع حداد وخليل الوزير وأبو علي مصطفى والشيخ أحمد ياسين والدكتور فتحي الشقاقي ودلال المغربي وسمير القنطار، ويقرأ سيرة وفاء إدريس ودارين أبو عيشة ومهند الحلبي وباسل الأعرج وعدي التميمي وإبراهيم النابلسي.. وغيرهم كثُر، إذ ما المانع أن تعلن المؤسّسات الثقافية والاجتماعية الفلسطينية العامة والخاصة عن جائزة لأفضل عمل فني أو أدبي منجز عن كلّ واحد من هؤلاء الشهداء، بل وتطلق حملات دورية في وسائل الإعلام وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، كي يبقوا حاضرين في الوجدان والذاكرة.

لقد تناولت بعض القصائد والقصص والروايات حياة بعض الشهداء، ومجّدت الأفلام الوثائقية والتسجيلية والروائية الطويلة والقصيرة بطولات البعض الآخر، وقدم التشكيليون والمصورون أبهى اللوحات عنهم، لكن ذلك كله باعتقادنا لا يكفي، لأن الأجيال يمكن أن تنسى أو قد لا تتذكر مناسبات استشهادهم، لذلك حتى لا تسهوا الذاكرة عنهم ينبغي أن يكونوا حاضرين في يومياتنا ولقاءاتنا المختلفة، نكتب عنهم ونؤرّخ لبطولاتهم الاستثنائية في معانيها ودلالاتها، بل ينبغي أن تكون صورهم في مدارسنا وجامعاتنا ومنتدياتنا وتجمعاتنا، لتصل إلى كل عقل وقلب وعين بصيرة، فما أكبر تأثير الأم الفلسطينية وهي تحمل نعش ابنها، وما أعظم أن يتقدم الأب موكب تشييع ولده وهو يهتف “بالروح بالدم نفديك يا فلسطين”.

إن إيماننا المطلق أن فلسطين باتت ذاكرة الشهداء، وأنها تستحق بمدنها وبلداتها وقراها هذه الدماء الزكية، لا بدّ أن نترجمه عملياً، لأن فيه تأكيداً حتمياً أن الانتصار لا يتحقق إلا بالحفاظ على تضحياتهم وتخليدها كي تبقى حاضرة قارّة في الوعي والذاكرة والقلب والوجدان.

Exit mobile version