قصة

زنبقة الأحلام

قصة: ناديا إبراهيم

زنبقة الأحلام
قصة: ناديا إبراهيم
كان الأستاذ رضوان الحاكي يناغي العصافير من شباكه، لكسب ما تبقى من العمر، يأخذه الشوق من شدة الملل والفراغ إلى التحدث مع زملاء المهنة لساعات طوال، ولاسيما من بقوا على رأس عملهم من أجل تحويل المرار إلى سكر وسواد الأيام إلى بياض، إخلاصه في مهنته والوقوف أمام الطلبة أنهك جسده وأتعب مفاصله، فأصابه الديسك، ولم يعد يرى بداً من التقاعد والإحالة على المعاش.
في لحظات الصمت والوحشة كان لا يرى أمامه سوى زوجته تهدهد روحه ببعض الكلمات، وبعدها تقدم له الطعام ثم تنطلق إلى غرفتها مسرعة لتتابع بعض المسلسلات ونشرات الأخبار. على مدى السنوات ظل يقاوم شلل الهموم ويتلو على مسامعها عبارات الشكر والمديح والإطراء تسمعه أحياناً، وأحياناً لا تعيره أي اهتمام، تعود في كثير من الأوقات الى مطالعة الروايات وقراءة كتب الشعر والمجلات وحتى لا يفلت منه عشق الكلمات الراقصة على إيقاع القلب، أمسك في إحدى المرات جواله وفتح على صفحة إحدى الصديقات، امرأة شقراء الشعر، رقيقة الملامح، من خلال حديثها معه وما تكتبه له من حروف رائعة راح يتخيل جمالها الفتان وأنوثتها الطاغية، حتى بدت أمامه عشتار المغناج ولاسيما حين كانت تبوح له بأسرارها وتنثر كلماتها في عينيه المقرحتين بالسهاد، ليلتئم الانكسار ويعود الضوء إلى البياض، ولحظة تنهي معه حديثها، كانت ترسل له وردتين واحدة حمراء وأخرى صفراء تتراقصان مثل وتر على قيثارة ثم تتعانقان وتضمان بعضهما بقبلة!.
في الليل عندما يضع رأسه على الوسادة وتتخدر روحه في تفاصيل حديثها، ولاسيما أحاديث الحب والقلب والوطن يتخيل ابتسامتها الندية، فيغمض عينيه، ويأخذه التفكير فيما لو يلتقيان ولو صدفة ليدخل الفرح والسعادة إلى قلبه ويبتعد عنه الحزن والتشاؤم، بين ليلة وضحاها غدت له الزنبقة التي تعانق أخاديد العمر الذابلة.
أرسل لها قصيدة تنبض روحها بالآهات والجنون، ردت عليه بكلمات تهطل بالجمال والحبور :
– لو تشرع لي صدرك يا حبيبي لانصهرت لك بركاناً من الحنان أنا المنسية على أهداب العطش، كيف لي أن أتحمل هذا الطوفان؟.
أعجبته حروفها الرقيقة، فأمره قلبه الحكيم بالتريث قليلاً لكن رائحة الكلمات التي ذبحته ولاسيما حين وصفت له طفولتها وتخيلته وهو يلهو معها على ضفاف العشب، دفعته لأن يلتقي بها، لكن كيف؟ من أين له المال والفقر وحش كاسر؟!. وراتبه لا يكفي ثمناً لطعام العائلة، أمضى حياته بالاستدانة من دكان جاره أبو عدنان، مرت الشهور وهما يتواصلان وجمال حديثها يخفف عنه ضغط الدم ورماد الأزمات، تلك الليلة الكحلية كتبت له أنها تفكر بالانتحار إذا لم يف بوعده، ظن من كل قلبه أنها تفتعل المزاح فقرر تمزيق رزنامة الأيام ورمي أوراقها في الهواء. كتب لها قائلاً: -تعالي نتبادل النسيان يا حبيبتي ونبكي الزمان.
ثم غاب عن صفحتها لشهور، لكن الروح التواقة للحب ولزخم الكلمات دفعته للاشتياق من جديد ولاسيما حين صرحت تودعه الوداع الأخير قائلة:
– مات الربيع دونك يا حبيبي سامحني والشتاء أقفل الأبواب، وغداً الوصول إلى قلبك حريق.
لحظتئذ بكى وردد يصرخ هائماً بعد أن فر العالم من بين يديه:
– والله لوكنت لك ما مات الجسد، وما أنهكني طول المسافات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى