عن غسان جود ..

عمر جمعة

على مدى تجربته الفنية الطويلة، اختار الفنان الراحل غسان جود (1970- 2023)، الانحياز للمخيم كنافذة كان يراها بوابةً واسعةً يطلّ منها على التراجيديا الفلسطينية المشتعلة في أوجع صورها، ناقلاً عذابات شعبها في الشتات وأماكن اللجوء، وقد برع في مجمل اللوحات التي رسمها منذ تفتّح بواكير وعيه التشكيلي في أزقة وشوارع مخيم خان دنون، مروراً بدراسته للفن وتخرجه من معهد إعداد المدرسين عام 1991 وصولاً إلى وقوفه إلى جانب كبار الفنانين التشكيليين في أكثر من معرض، وبذلك استلهم الراحل تجارب إسماعيل شموط ونذير نبعة ومصطفى الحلاج ومحمد الوهيبي وعبد المعطي أبو زيد وعلي الكفري ومحمود خليلي.. وسواهم، قبل أن يتفرّد بأسلوب يميّزه عن الرواد أو المعاصرين، إذ استطاع بحسّ التشكيلي المبدع أن يماهي بين الأصالة والحداثة، ولاسيما مع ألوانه الزاهية التي امتازت بها مجمل لوحاته رغم قتامة الصور والموضوعات التي قدّمها.

لقد ارتكزت تجربة الفنان الراحل غسان جود في تعبيرها وتجليها، على المعاناة والمأساة المتناسلة والأحلام المشتهاة والذاكرة التي لا تشيخ، فضلاً عن الأمكنة القارّة في وجدانه، إذ كنت ترى جرياً وتوازياً مع التجربة التشكيلية الفلسطينية برمتها، تلك البيوت المتراصفة المتراصة، ووجوه الرجال وقامات النساء بزيهنّ الفلسطيني الأثير الذي يثبّت الهوية التي حاول الصهاينة على مدى 75 عاماً طمسها أو محوها كلياً، أو تقف ملياً أمام الخيمة الأولى وبيت الصفيح الأول والطريق الترابي المغبر أو الموحل الذي شكل صورة بليغة من صور المخيم وتجمعات الشتات، وكأن الراحل جود كان يؤمن إيماناً مطلقاً بأن الفن التشكيلي هو الرسالة الأبلغ والأكثر إقناعاً لمخاطبة الآخر وإيصال صوت مئات آلاف اللاجئين المتعبين إلى العالم الساكت الصامت عن اقتلاع شعب من أرضه ودياره ومدنه وقراه، لإحلال شعب آخر مكانه، لذلك لا بد من استعادة هذا المكان واستذكار ملامحه عبر اللون والريشة ومساحة القماش وتعرجات الخطوط كي يبقى حاضراً في ذاكرة ووجدان وضمير الأجيال القادمة.

ولم يكتفِ الراحل غسان جود بذلك كله، بل امتدّ به الخيال نحو مدن الداخل المعشّقة بالحنين، حتى بدت قبة الصخرة ومدينة القدس واحدة من هواجسه في الدفاع عن المكان الفلسطيني المسلوب، فهي كلمة السرّ للوصول إلى قضاء صفد و”الصالحية” بلدته الأصلية في سهل الحولة، وهي المفتاح والكوفية التي سيحملها أبناء عكا وحيفا ويافا وبئر السبع والخليل وأريحا وغزة أينما حلّوا أو ارتحلوا.

وعلى هذا فإن الراحل غسان جود انتمى بإحساسه وموهبته وعفويته وفطريته إلى قافلة التشكيليين الفلسطينيين جميعاً، وتفرّد فيها، ولاسيما إذا علمنا أن استلهام التراث الذي يعدّ أحد العناصر المهمة في تكوين الهوية الثقافية والوطنية الفلسطينية، وتقديس المكان الذي يرمز إلى البقاء والوجود، وفضح ممارسات الاحتلال الصهيوني وجرائمة المشينة بحق الأبرياء العزل، والأسرى والمعتقلين، وتدمير المدن والبلدات والقرى وتجريف الحقول ومصادرة الأراضي، وملاحقة الفدائيين والمقاومين الرافضين لسلطة وسطوة هذا الاحتلال، كل هذه الاتجاهات كانت عاملاً من عوامل نجاح الفن في إيصال رسالته حتى لو كانت مكتوبة ومعمّدة بالدم. 25 عاماً قضيتها متابعاً لمسيرة غسان جود الذي قضى قبل أيام إثر اعتداء إجرامي آثم، ما عرفت فيه إلى الانحياز للمخيم، والانتماء للوطن البعيد الساكن في القلب، والوفي لريشته وقلمه بقدر وفائه ودفاعه عن مبادئه الثابتة بأن البوصلة كانت ومازالت وستبقى فلسطين.. كل فلسطين. 

Exit mobile version