فلسطينيّات يغنّين رسائلهنّ… في سوسيولوجيا الأغنية الشعبيّة
لا يمرّ على النساء الفلسطينيّات حدث اجتماعيّ وسياسيّ إلّا روينه بأغانٍ شعبيّة، وثّقت ظواهر وأحداث مراحل تاريخيّة مختلفة في فلسطين، بما تضمّنته من تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة، بدءًا من فترة الحكم العثمانيّ مرورًا بالاستعمار البريطانيّ حتّى الاستعمار الصهيونيّ؛ مخلّفات بذلك موروثًا ثقافيًّا، صار موضع اهتمام الباحثين في اللغة والتراث، والتاريخ الشفويّ، والأنثروبولوجيا الثقافيّة، والأدب الشعبيّ، وعلم الاجتماع. وهذا الأخير هو المنظور الّذي تَقْرَأ من خلاله هذه المقالة الأغنية الشعبيّة، انطلاقًا من الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ للمجتمع الفلسطينيّ وثقافته الّتي أُنْتِجت فيها.
البنية الاجتماعيّة والسياسيّة في الأغنية التراثيّة
تتطلّب عمليّة قراءة الأغنية الشعبيّة الفلسطينيّة، من منظور سوسيولوجيّ، أن نحلّل محتواها ومضمونها، عبر الربط ما بين دلالات الأغنية، الظاهرة منها والكامنة، والبنية الاجتماعيّة الّتي أنتجتها. في ضوء طابعها الثقافيّ والسياسيّ الّذي انعكس على النصّ الغنائيّ، هذا يعني البحث في ما وراء الكلمات والحفر في المضامين الكامنة والوعي برمزيّتها، من خلال تفكيك البنية التكوينيّة للنصّ الغنائيّ، الّذي نراه في كثير من أمثلة الأغنية الشعبيّة يأخذ صفة الخطاب الاجتماعيّ والوطنيّ.
من خلال بعض النماذج من الأغنية الشعبيّة – وهي ليست سوى انتقاء ضئيل من كومة هذا الموروث – يمكن التفكير بالنصّ الغنائيّ بوصفه نصًّا اجتماعيًّا، له أبعاده الثقافيّة والسياسيّة والقيميّة والعاطفيّة والوطنيّة والهويّاتيّة، الّتي تشكّلت بطابع أبرز تحوّلات المجتمع الفلسطينيّ. نبدأ بمرحلة الحكم العثمانيّ، تحديدًا فترة ’السفر برلك‘ (1914 – 1918)، المصطلح الّذي أُطْلِق على حالة النفير العامّ في الحرب العالميّة الأولى، بعد أن أعلن السلطان العثمانيّ الوقوف مع طرف ألمانيا والنمسا. بموجب ذلك، أصدر ’فرمانًا‘ فرض بموجبه التجنيد الإلزاميّ على رعايا الدولة العثمانيّة (أي البلاد الّتي تقع تحت وصاية الحكم العثمانيّ ومنها فلسطين، وكلّ بلاد الشام)، وصار الالتحاق بالتجنيد العسكريّ إجباريًّا على كلّ من سنّه بين (15-45) عامًا.
وثّقت النساء الفلسطينيّات التأثير الاجتماعيّ والنفسيّ والاقتصاديّ لـ ’السفر برلك‘ في كثير من أغانيهنّ؛ ففي وداع الرجل الملتحق بالحرب غنّين: “هي يمّا ودعيني قبل ما أمشي… ما تدري بعثراتي وأنا أمشي”. هذه الأغنية الّتي عكست حالة الحزن والخوف الشديد، بعد أن صُوِّرت في مخيّلتهم هذه المأساة بأنّها ذهاب إلى مصير مجهول في طريق مبهمة أحداثه ونهايته.
وفي الآثار الاجتماعيّة والاقتصاديّة لهذه المرحلة، غنّت النساء عن الدور الاجتماعيّ الّذي ساهمن فيه لإعفاء أزواجهنّ أو أولادهنّ من التجنيد الإجباريّ؛ بِرهن ما يملكن من الذهب إلى حين تسديد المبلغ المقدّر دفعه، مقابل الإعفاء من محاصيل العنب وغيره؛ إذ كان يستحيل توفّر المبلغ الباهظ مع الجميع، ودفعه نقدًا في ظلّ الحالة الاقتصاديّة للناس آنذاك. وفي كلمات تلك الأغنية:
يلّي ساقوا وِلفك ع سفر… ع سفر برلك ساقوا إلك ولفك
شو بتنفعك غوايش الذهب… والذهب عمره ما بضلّلّك
قومي لعند الخواجا قبل ما تبيعي العنب وينفق…
قومي لعند الخواجا قبل ما الدركي يحرقلك قلبك