قاسم سليماني .. الدّور والرمزية
د. محمد البحيصي رئيس جمعية الصداقة الفلسطينية – الإيرانية
في تاريخ هذه الأمة مرّت رموز كتبت بفعلها سطوراً مجيدةً، استقرّت في ذاكرة الأجيال وظلّت بمثابة الوقود القيمي والأخلاقي الذي يزوّد أدوات حضور الأمة ومكانتها بوقود لا ينضب، وكانت رافعة وحاملة لتطلّعاتها وباعثة لكوامن إرادتها..
وقد تعلّقت الجماهير بهذه الرموز في حياتها وبعد انتقالها من هذه الدنيا، ولربّما زاد هذا التعلّق بعد رحيل هذه الرموز، وفي الغالب فإنّ نهايات هذه الرموز قد لعبت دوراً مهمّا في اتّساع دائرة الرمزية، وعمق حضورها، وأعظم هذه النهايات كان الشهادة في سبيل الله، والتي تجلّت في اندغام هذه الرموز في هموم الناس ومعاناتهم وآلامهم وآمالهم، ولا سيّما المستضعفين منهم، فكانوا صوت الفقراء، وصوت من لا صوت له، وكانوا اليد التي تحوط هذه الفئة بالرحمة، والحماية، والأمان…
ولا يخلو بلد من بلداننا من واحدٍ أو أكثر من هذه الرموز، فنجد مثلاً في فلسطين الشيخ عز الدين القسّام، وعبد القادر الحسيني، ونجد في لبنان عبّاس الموسوي وعماد مغنية، ونجد في سورية الشيخ صالح العلي ومحمد الأشمر، وسلطان الأطرش، ونجد في مصر جمال عبد الناصر، ونجد في ليبيا عمر المختار، وفي الجزائر عبد القادر الجزائري والإبراهيمي، وفي السودان المهدي، وفي المغرب عبد الكريم الخطابي، وفي إيران الإمام الخميني، وفي اليمن إبراهيم الحمدي وحسين الحوثي .. وهكذا.
والأمّة الحيّة هي التي تحافظ على رموزها، وتجعل منهم قدوة ومثالاً، وتتمثّل بحياتهم نهجاً وسلوكاً، وتحوطهم بالتوقير والتأسّي، وتُحيي ذكراهم باعتبارها محطة وفرصة للتعبير عن الوفاء والولاء للقيم والمبادئ التي عاش لها وبها هؤلاء الرموز، وللتأكيد على أنّ الحياة الكريمة التي منحها هؤلاء لشعوبهم كانت بعض كرامة الله لهم، تلك الكرامة التي تسري في الأجيال، ويتوارثها الناس، وتقوم بدور المناعة في جسد الجماهير، والمحرّك الذي يدفعها للثبات في مسيرة الحق…
ومن هذه الرموز التي منحها الله لهذه الأمة كان الشهيد الحاج قاسم سليماني، وقد جاء ترجماناً أميناً وصادقاً للأهداف التي عاش لها الإمام الخميني وحملها من بعده القائد السيد الخامنئي، وهي ذات الأهداف التي بُعث بها ولأجلها الأنبياء والصلحاء من أولياء الله، ويلخّصها حبّ الله ورسوله، والولاء للرسالة، والتشرّف بخدمة عباد الله، ونصرتهم، ورفع الظلم والحيف عنهم… والبصيرة في الجهاد، والتصدّي للمؤامرات التي تستهدف الأمة وتكرّس الوجود اللاشرعي للكيان الصهيوني الغاصب..
لقد كان الشهيد الحاج قاسم أمّة في رجل.. وقوّة في لطف .. ولين من غير ضعف.. شهدت له ساحات الجمال وميادين الجلال.. فكان القانت في محراب الولاء، غزير الدمعة قصير الأمل في هذه الدنيا الفانية، عظيم الشوق للقاء الله، لا تبرح صور رفاقه الشهداء السابقين فؤاده، وهو يستحث الخطا للحاق بهم محمولاً على أجنحة الشهادة، زاده التقوى والجراح، وثقته في الله وحسن ظنّه به سبحانه، جعلاه شهيداً حيّاً لأكثر من أربعين سنة..
وكانت فلسطين والقدس نشيده الذي يتردّد في صدره وعلى لسانه دونما كلل ولا ملل، عينه ترنو إليها، وفؤاده يهوي إليها، وسيره إلى الله مستقبلاً وجهها المقدّس وأرضها المباركة، حتى لقي الله وهي معه، تصبغه بدمها، وتلبسه حلل كرامتها، وتزفّه إلى الملأ الأعلى بتهليلاتها وتكبيراتها، فكان بحق شهيد القدس.. وأي شرف أعظم من هذه الشهادة، وأيّة كرامة أسمى من هذه الكرامة..
فسلام عليك أيّها الشهيد… وسلامٌ على أشلائك التي رسمت للأجيال درب الانتصار ودرب الخلود..