لوحات دينا مطر: المرأة حين تحضن المكان
يأخذنا الفن إلى تلك المنطقة الحقيقية التي تجعلنا نرى الأشياء وهي قريبة مما نشعر به في الواقع، كما قال بيكاسو: “الرسم طريقة أخرى لكتابة المذكّرات”، وقد ظهرت في الفن المعاصر لغة جديدة تأخذ الرموز من مكانها إلى مكان آخر أقرب إلينا، ومن هنا تأتي فكرة معاصرته. فلا تشكّل المرأة في لوحات الفنّانة الفلسطينية دينا مطر رمزاً ما، بل يأتي حضورها مرافقاً لكل العوالم التي تمنح وجودها معنى في الواقع. فتحضر معها العائلة والطبيعة والأطفال وحتى البندقيّة والكوفيّة. يتعدّد أشكال وجودها المتنوّع لكي نقرأ فجأة المكان كلّه بوجودها، فلا نراها كرمز للمكان بل كجزء من فضاءاته المتعدّدة، ليتسنّى لنا رؤيته بوضوح من خلال تأمّل الحيّز الذي تشغله المرأة فتضيف عليه ألقاً آخر من وجودها وحضورها الإجتماعي. وهذا ما يجعلنا نفكر كثيراً في الأعمال الفنية التي تهتم بالمرأة ويجعلنا نفكر بقوّة ما تعكسه من حضورها لنتساءل: هل هي لوحات تقدّم عالم المرأة ومكانها؟
تعيش دينا في غزة، وهي حاصلة على بكالوريوس في التّربية الفنيّة، ورغم أنّ الحرب تترك أحياناً آثارها على اللوحات لكن الألوان القوية تضيف ألقها وفرحها، فتتحوّل لوحات دينا إلى حديقة مزركشة بالألوان.
تعرض دينا أعمالها في فلسطين والخارج، في بريطانيا وسويسرا
وفرنسا والولايات المتحدة والأرجنتين ودبي. تقول دينا عن رسمها لغزة: “غزّة هي مدينة ساحلية، البحر جزءٌ من مشهدها العام، ولكن هذا المشهد له خصوصيّة عندي، لأنني من عائلة أهلها صيادين”.
حلمي التوني وفريدا كالو
ربما تكثر الأعمال الفنية التي تهتم بحضور المرأة، إلا أن الرؤية الفنية الي تعكسها أعمال دينا تجعل المرأة حالة فنية خاصة، وهي القادمة من غزّة، فتولي وجودها اهتماماً بالمدينة والأشخاص من حولها والبحر وحتى الزي التقليدي، فتذكرنا أعمالها بلوحات حلمي التوني المليئة بالخطوط والألوان. ففي لوحات التوني نلاحظ ذلك الحضور المبتهج للمرأة وعلاقته الوثيقة جداً بالتصميم ورسم الأطفال وهذا ما جعل لوحته تقترب من التصميم الغرافيكي. هذا ما تفعله الفنانة أيضاً فهي تعطي للتفاصيل الصغيرة اهتماماً فنرى في الكثير من اللّوحات الزيّ المزركش وتلك الزهور الصّغيرة على الفستان، وكأن الفنّانة هنا لا تترك تلك النقاط والخطوط الملوّنة تغيب عن اللّوحة. فاللّوحة هنا ليست مجرد اطلالة على حضور المرأة فقط بل اهتمام أيضاً بملابسها وكأنّ جمالها أيضاً لوحة أخرى. أخذتني هذه اللّوحات أيضاً إلى عوالم فريدا كالو، وتلك الملابس التي كانت تعطيها فريدا اهتماماً خاصاً لشخصّيتها التي ترسمها رغم أن فريدا كانت تحاول أن تعكس معاناتها الخاصّة، لكنها في الوقت نفسه، كانت لا تنسى تفاصيل ملابسها وجمالها الخاص وتلك الألوان الفاتحة والمزركشة أحياناً. لا تعطي دينا أبعاداً للألم في لوحاتها كما في لوحات كالو، بل هناك أحيانا حزن طفيف، وأحياناً فرح غامر. تصبح هنا اللوحة بمثابة صورة فوتوغرافية عن امرأة من فلسطين، يشكّل وجودها ركيزةً أساسية للحياة الاجتماعية المتنوّعة من حولها.
الأحاسيس الداخلية والمحيط بعامة:
لا نتيه في أعمال دينا لنبحث عن أحاسيس تلك المرأة، بل نكتشف عالمها الداخلي من خلال ما يحيط بها من عوالم. فنتأمل في بعض اللوحات حضور البحر والأسماك، كجزء من العالم الدّاخلي للمرأة، حيث يعكس ذلك شعوراً بالمرح والخفة، خصوصاً وأن تلك العناصر غائبة تقريباً في عالم الفن، وهذا ما يعطي لهذه الأعمال الفنية روحاً طفولية يجعلها تقترب من عوالم التّصميم، وخصوصاً أن الفنانة مهتمة ومتخصصة بذلك. ربما يكون لحضور البحر معنى آخر لرؤية دينا مطر الفنية، فهي تحاول أن تعطي أيضاً للأزرق مساحة هامة في أعمالها، ربما يعود ذلك لوجودها في غزة، وربما أيضاً لأنها جعلت المرأة مصاحبة لفكرة وجود الطبيعة من حولها، فتحضر النباتات والحدائق والأشجار. قد تكون تلك المرأة وحدها داخل اللوحة مع نباتاتها وأشيائها، وأحياناً قد تكون برفقة صديقتها، أو مع زوجها، أو مع العائلة. لا تنس دينا ذلك الحضور المهم للبيت والعائلة والطفل، فالمرأة بالنسبة لها هو كيف تتواجد مع المحيط، وهنا تبدو اللّغة الفنيّة لدينا هو أن ترسم المرأة وهي تحضن المكان من حولها، فيبدو عالمها الداخلي مشغول بفكرة المكان ومزدحم بعناصر فنية تجعل المرأة غير وحيدة أو حزينة أبداً.
الكلمات والتراث والثورة
تحضر الكلمات في اللوحة كجزء من المشهد، وكأن اللغة أيضاً لا تفارق عالم المرأة، فنرى مثلاً جملة: “ليست غزة أجمل المدن” في أسفل لوحة لامرأة يحيط فيها البحر. الكلمات هنا تضيف جمالاً خاصاً للوحة ليست بهدف تزيينها، إنما إضفاء جوّ خاصّ يهتم بتفاصيل المكان، فهو ليس فقط طبيعة إنما هو لغة أيضاً. ففي لوحة بعنوان شدّوا الهمة، تظهر هناك عائلة فلسطينية يبدو أنهم صيادون يحملون الأسماك، بينما كلمات الأغنية: شدوا الهمة، الهمة قوية…الأغنية هنا مرافقة للبحر أيضاً وتشكل جزءاً منه.
لا تنسى الفنانة طبعاً في لغتها الفنية أن تعطي حضورا خاصاً للبندقية كجزء من عالم لا يغيب عن عالم المرأة كمقاومة وثائرة، وقد حضرت تلك البندقية أيضاً في أعمال فنية سابقة لفناني التحرير والثورة، والجميل أن الفنانة تستعيدها بلونٍ جديدٍ فتضفي ألوانها البراقة، ولا تنسى أن تضع طبعاً تلك الزهرة على فوهة البندقية التي رأيناها في بوسترات مارك رودين والفنان السّوري برهان كركوتلي, ولعل المميز هنا أنّ الفنانة لا تستعيد ذلك فنياً بهدف حفظ ذلك التاريخ، إنما يبدو أنها لا توثّق فقط بل تفتح الخيال أمام القارئ لأعمالها أنّها تهتمُّ بحضور المقاومة كجزء من وجود المرأة. فلا تنسى أيضاً الكوفية التي تبدو في أحد أعمالها وكأنها المكوّن الرّئيسي للوحة.
هنا تنبهنا الفنانة أن التّراث بالنّسبة لها هو عالمٌ متكاملٌ يشمل اللّغة والكوفيّة والبندقيّة وعالم المرأة الاجتماعي وحضور غزة والبحر. فهي ترى مسألة التراث فنيا غير مرتبطة بالرمز إنما بالجو العام الذي تضفي عليه المرأة معنى خاصاً.
ربما تكون مناسبة هذا المقال هو أن نتأمل لوحات فنانة تقول لغتها الفنية معنى أن تحضن المرأة المكان كله، من غزّة، التي لا نرى جروحها في اللّوحة لكننا نطل من خلال تلك الألوان على زوايا خفيّة من وجودها في هذا العالم، فهي في لوحات دينا مطر تحضن المرأة أيضاً. وهنا يمكننا القول أنّ لوحات دينا التي تجوب العالم تخرج من غزّة لتحضن تلك الطاقة الملوّنة التي تحاول الحرب والمآسي والخراب أن يخفيها ويدمّرها. فاللون بالنسبة لها هو المكان الذي ينقذ كل شيء حولها.