عناوين ريسيةموسيقى

من ذاكرة العمار والعمّارين في صفد .. في الأغنية التراثية

البناء في ذاكرة الغناء 

“سقعتها بتقص المسمار”، أي يقصّ برد صفد القارس المسمار من شدّته… هذا ما قاله “مَعمَرجية” المدينة (أي بنّاؤوها)، والذين راح قولهم مثلاً يُحيل إلى برد المدينة شتاءً نظراً لارتفاعها ما بين جبالها المُصفّدة صفد فيها، وأهمّها جبل كنعان الذي تتوسّده المدينة شرقاً.

لم يحدث أن تسلَّلت حِرفةٌ بكلِّ أدواتها إلى قاموس أهلها الاجتماعيّ مثلما حدث وتسلّلت حِرفةُ البناء والعَمَار إلى قاموس ومخيال أهالي صفد، فقد احترف الصفديون دكّ الحجارة مثلما احترفوا التجارة وأكثر. كما لم يجرِ أن اعتدّت مدينة فلسطينيّة بعمّاريها مثلما اعتدّت صفد بهم، فإبريقُ ماء شُرب “البنّا” وخيطه، ظلّا ماثلين في غناء الصفديين إلى ما بعد نكبة مدينتهم وتهجير أهلها منها، أشجاها تلك التي غنّتها نسوة صفد والجليل عموماً، مخاطباتٍ العروس فيها وموصياتٍ إياها بواجب البنائين:

مَلّي بريق البنّا
يا مخضّرة بالحِنّا
انتوا بنيتوا أوضة
واحنا بنينا أوضة
عرايسنا ع الموضة
عادات أبونا وأهلنا.

إنتو بنيتو صهوة
واحنا بنينا صهوة
ورجالنا بالقهوة
عادات أبونا وأهلنا.

إنتو بنيتو صِيوان
واحنا بنينا صِيوان
ورجالنا بالديوان

عادات أبونا وأهلنا… 1

تتضمن هذه الترويدة التي كانت تُغنَّى للعروس في ليلة حِنائها تعابير متصلة بعالم العمارة في صفد وقرى الجليل، بعد تذكير العروس بواجبها كإمرأةٍ في ملء إبريق البنّا بالماء، ثم تباهي النسوة في أشكال بناء البيوت وهيبتها، فالـ”أوضة” كلمة تركية الأصل وتعني “الغرفة”، بينما “الصهوة” هي العلية بالتعبير الفلسطيني -الفلّاحي الدارج. بينما الصِوان تعني فناء البيت، وفي صفد كانت حارة الصواوين من أقدم حارات المدينة فيها وأعرقها. 2

وإذا ما تحلّق رجال مدينة صفد في العرس، كانت أولى أبيات دبكتهم على وزن الدلعونة، تلك التي يقول مطلعها:

ع جسر الجورة وقفت تستنى
والخصر أرفع من خيط البنّا
بنية يا بنية لا تيجي عنّا
مأنتِ بتعرفي والحب جنونا…

كان جسر الجورة الوحيد في المدينة والذي يربط غربي المدينة بشرقها حيث حارة الجورة المشهورة في مدينة صفد، والتي كان معظم أهلها من الحجّارين والعمّارين.3

لا يُعرف على وجه الدقة متى بدأ الصفديون احتراف البناء والعمار. غير أنَّ صفد ببيوتها الحديثة التي ظلّت باقيةً إلى يومنا، قد بُنيت بسواعد عمّاريها، بعد ما جاء زلزال سنة 1837 على كامل بيوتها القديمة مُحَوِّلاً إياها إلى ركامٍ.4 ربما كان ما خلّفه الزلزال من دمارٍ هو ما دفع الصفديين إلى احتراف البناء والعمار، فضلاً عن أنَّ صفد كانت بلدَ المحاجر والحجّارين قبل العمّارين، وحيث كان يُتقن قصُّ الحجر وصقله كانت تتطور حِرفة البناء تلقائياً.5

عمّر يا معلّم 

يُطلق الصفديون على العمّار اسم “لمعلم” ويُصبح البنّاء في صفد مُعلِّماً حين يُجيد التخطيط للبيت وتعميره معاً. ولقب المعلّم للبنّاء مُتعارفٌ عليه في التراث المعماريّ الإسلاميّ في بلاد الشام، بينما يسمّيه المصريون  بـ”الأستاذ”.6 وقد غنّى الفنان اللبنانيّ الراحل وديع الصافي للعمّار أغنيتَه الشهيرة “عمّر يا معلّم لعمار”.

ظل عمّارو صفد معلمين يُخطِّطون البيوت ويخطّوها حجارةً بيضاء منذ أن احترفوا البناء في ظلِّ التاريخ العثمانيّ للمدينة إلى إنكسار تركيا. ولمّا حلّ الانتداب، حاول الإنجليز تطويع معمرجية صفد، وإلزامهم بخرائط مهندسين إنجليز، في محاولة لقصر دَور العمّارين بالبناء فقط.7 ومع ذلك، ظلّوا يُربّعون البيوت ويبنونها على طريقتهم التي استلوها من علاقة إرث السكان بالمكان.

وكان إذا ما تعسّر تربيع بيت في عكا أو حيفا، وحتى في صيدا وصور، نادوا بمعمّرجي من صفد. كما كان أكثر ما احترفه عمّاروها بناء المآذن، إذ بنوا مآذن جوامع الجليل وقرى جبال عامل وحتى في بلاد الجولان وحوران قبل النكبة.8 ومن أشهرهم، كان أبو سليم وعلي الصفدي اللذين ذاع صيتهما لإتقانهما بناء العمار المُقبّب في ثلاثينيات القرن الماضي.9

قوّمة الجَمل 

كان يكتمل تربيع بعض بيوت صفد بثلاثة جدران فقط!، وذلك لأنّ الجدار الرابع هو سفح جبل كنعان الصخريّ نفسه، بعد تفّجيمهِ وكَلسهِ، فيغدو حائطاً من حيطان البيت.10 فقالوا الصفدية عن بعض بيوتهم في حارة الأكراد إنها أسقفٌ بلا أعمدة11، لأنَّ سقف البيت كان يتوسّد سفح الجبل. وقد حَملَ الشيخ الصوفي محمد الأسدي هذا التقليدي المعماريّ في إسناد البيت لسفح الجبل معه من صفد إلى قرية دير الأسد التي كانت تُعرَف بدير البعنة أو دير الخضر قبل قدومه، وذلك بعد أن أقطعه السلطان العثماني سليم الأول في القرن السادس عشر أراضي الدير، فصارت تُعرَف باسمه دير الأسدي ثمّ دير الأسد إلى يومنا هذا.12

قيل عن صفد حتى نهاية القرن التاسع عشر إنّها مدينةٌ سطوحُ بيوتها مثل أزقتها. المقصود أن كليهما تُرابيان، فقد كانت معظم أسطح بيوت المدينة مُسطّحة من التراب المجبول بالقش والتبن ومعه خشب الحور، الذي كان يضعه العمّارون على شكل عوارض لتثبيت سطح البيت.13 بينما تقنطرت (من قناطر) لاحقاً أسطح البيوت، ورُصفت شوارع وأزقة المدينة بالحجر، فصارت صفد مدينة شوارعها مثل جُدران بيوتها، مُحجّرة. لم يكن غير شارع مدخل المدينة، الوحيد المُعبد بالإسفلت مع مطلع القرن الماضي، بينما الأزقة والأدراج فيها مُبلّطة بحجارة بيضاء مَلسة مثل الصابون. فكم من خيّلٍ ركبها صفديون انزلقت مَحذية بهم في أزقة مدينتهم، كما لعب صِبية المدينة في أزقتها، دون أن يضطروا لانتعال أحذيتهم.

في صفد، بعد تخطيط البيت وتربيعه بخيطان رفيعة بيضاء، ولأن أرض المدينة جبلية – صخرية، كان يجري غمر الأرض قبل البناء بالماء، وذلك لتليينها من أجل تسهيل حفر الأساسات، المرحلة الأصعب في بناء البيت. ثم ليصعد البيت ببنائه ويقوم مثل “قوّمة الجمل” على حد تعبير عمّاري المدينة، فالجمل حين ينيخ، يقوم على مرحلتين، الأولى يقوم فيها متباطئا، ثم يهمّ في الثانية كله إلى أعلى كما نعلم، وهكذا المعمار يقوم “قَومَة الجمل”.

حتى آبار مدينة صفد كان معظمها نحتاً في الأرض أكثر مما هي حفر فيها، نظراً لصخرية أرض المدينة، ويُقال إنّ في صفد عام النكبة كان ما يزيد عن الـ3000 بئر ماء جمع، لأن مصادر مياه المدينة شحيحة.14

كانت جدران بيوت المدينة مبنية بسمك متعارف عليه يُطلق عليه “الكلّين”15، وهو سمك الجدار الذي كان يتجاوز النصف متر، وفي صفد كان يصل سمك جدار البيت أحياناً إلى متر، بِحُكم برد المدينة في الشتاء، إلى حدٍّ كان يفترش فيه أهالي صفد أرضية شبابيك بيوتهم ويناموا عليها صيفاً، نظرا لوسعها المتصل بسمك جدرانها.16

كما في بناء بيوت صفد، ما يُحيل إلى الفوارق الاجتماعية والطبقية في المدينة، من حيث الفن المعماري فيها الذي كان يصل ببعضها إلى حد البذخ، فقد كانت في صفد عائلات متنفذة، صُنف أبناؤها كـ”مقطعجيين”17 لتملكهم أراضٍ وقرى بأكملها في قضاء صفد. وقد دلّ معمارُهم على هويّتهم ومكانتهم الاجتماعية والاقتصادية عبر قنطرة بيوتهم والارتفاع فيها طابقين أو ثلاثة في بعض الأحياء، ومنهم من وصل فيه بذخه إلى تكحيل حجارة واجهات بيوتهم بكحلة مكوّنة من خيوط الكتان المنقوعة بزيت الزيتون لمدة تزيد عن العام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى