كلمة الموقع

44 عاماً من عمر الثورة

عمر جمعة

لعلّ أهم ما يمكن الوقوف عنده في تاريخ الثورة الإسلامية في إيران، والتي تحتفل الأمة برمتها هذه الأيام بمرور 44 عاماً على قيامها، هو عمومية هذه الثورة التي أحدثت انقلاباً جذرياً شاملاً في الكثير من المفاهيم السياسية والفكرية والاجتماعية، جنباً إلى جنب مع تغيير كبير في البنية الثقافية للمجتمع الإيراني أولاً، والشعوب التي آمنت بهذه الثورة ومنطلقاتها النظرية والعملية ثانياً.

إن المعادل الواقعي لنجاح الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني، رضوان الله عليه، وحقّقت انتصارها في 11 شباط من عام 1979، سنلمسه من خلال امتدادها إلى أصقاعٍ وأعماقٍ مختلفة من العالم، رزحت ردحاً من الزمن تحت ظلال ثقافة استهلاكية تابعة مرتبطة بأنظمة سياسية تجترّ نفسها وتكرّر مقولاتها دون أن تعبّر عما يحلم به المجتمع، ولعلّ من تجليات الواقع الذي أنتجته الثورة شيوعُ ثقافة المقاومة والرغبة في بناء المجتمع البشري كله على أساس أخلاقي سامٍ يؤمن بحرية الفرد وحقوقه، ويؤكد على القيم الروحية بدلاً من القيم المادية، ويسعى إلى إعلاء شؤون الفنون والآداب التي تنتصر للإنسان ولا تنتصر عليه، كما رأينا في بعض الثقافات السكونية المستسلمة المتأثرة لا المؤثرة، الرجعية لا المتجدّدة، وبرز جزء كبير منها بعد الحرب العالمية الثانية، حين غدت أوروبا جميعها، على سبيل المثال، أسيرة الحلم الأمريكي الاستكباري الذي يهدف للسيطرة على العالم.

ولو شئنا الإبحار في ما أنجزته الثورة بعد 44 عاماً من عمرها، لوجدنا أن المجتمع الإيراني ومعه المؤمنون بمبادئ الثورة وأهدافها، قد قطعوا أشواطاً كبيرة واجتازوا مراحل صعبة ومعقدة لتعميم ثقافة الحياة، أو ثقافة المقاومة، ولاسيما في تنشيط الأعمال الفكرية وتطوير آليات الحوار والتبادل الثقافي، وتثقيف المجتمع وتعليمه وتسييره نحو الوحدة الحضارية للعالم الإسلامي، ونصرة الحركات الثقافية التحريرية والتنويرية، والاعتماد على الشباب الذين يشكلون رصيداً لا يُستهان به في حمل قيم الثورة، وقال عنهم الإمام الخميني في الكثير من توجيهاته: “الثقافة مبدأ جميع سعادات وشقاوات الأمة، إذا صارت الثقافة غير صالحة، فهؤلاء الشباب الذين يربّون تربية الثقافة غير الصالحة، هؤلاء سيوجدون الفساد، الثقافة الاستعمارية تعطي البلد شاباً استعمارياً، وإذا كانت الثقافة ثقافة صحيحة فإن شبابنا سيكونون أصحاء”.

ولأن الثقافة تستلزم قاعدة علمية وتعليمية متينة، فقد ركزت الثورة أكثر على الجانب، فأولت المدارس والجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث جلّ اهتمامها، وفي هذا يقول الإمام الراحل “إنه بمقدور الجامعات، كأحد أبرز المعالم الثقافية في المجتمع، أن تغمر العالم بالنور إن قرنت التعليم بالخلق الإنساني وبمسايرة الفطرة الإنسانية. وإذا فصلنا العلم والتخصّص عن الأخلاق والتهذيب والوعي والالتزام فإنّ ذلك يؤدي إلى بروز مفاهيم وأفكار غريبة علينا تجتاحنا من الغرب والشرق وتنقض على قيمنا وعقائدنا وأفكارنا”. ولهذا فإنه باتت واضحةً المفاهيمُ التي أرستها الثورة المتجدّدة اليوم، وأوجزها مؤخراً المرشد الأعلى السيد علي خامنئي في خطابه لـ«المجلس الأعلى للثورة الثقافيّة»: “إن الثورة الإسلاميّة حوّلت ثقافة الإعجاب بالذات والشهرة إلى ثقافة الإيثار والتضحية في الحياة الشخصيّة للأفراد، كما حوّلت ثقافة الانبهار بالغرب إلى ثقافة الاعتراض على الغرب”.

وعلى هذا أيضاً فإن النهضة والازدهار اللذين شهدتهما الثورة في الـ44 عاماً الماضية، وانعكستا على مجمل الفنون والآداب بدت جلية من خلال مظاهر ثقافية عدة، نذكر منها: الشعر والقصة والرواية والموسيقا والمسرح وهندسة العمارة التي تجمع ما بين الأصالة والمعاصرة، فضلاً عن صناعة السجاد والحرف اليدوية كإرث عريق، واللوحات التشكيلية والصور والجداريات التي تؤرّخ لتضحيات الشهداء، والاهتمام بالآثار والمتاحف، وإنتاج مئات الأفلام السينمائية الهادفة سنوياً والتي حصد بعضها جوائز عالمية مرموقة.

إن الـ44 عاماً التي مضت من عمرها، تؤكد أن الثورة قد حققت جزءاً كبيراً من أهدافها، ونجحت في تعميم القيم النبيلة التي تقاوم التبعية والهيمنة والاستكبار والتسلط، وتنتصر لإنسانية ومكانة الإنسان، وكانت الثورة الثقافية في طليعة هذه الأهداف السامية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى